وجهة نظر

التعليم بين الإصلاح والترقيع !

من المخجل الاستمرار في إيهام المغاربة بأن هناك رغبة أكيدة في إخراج التعليم من غرفة الإنعاش التي طالت إقامته فيها، والتمادي في ترديد تلك الأسطوانة المشروخة والشعارات الكاذبة عن الإصلاح. مما يندرج في إطار الجريمة الشنعاء، التي تستدعي محاكمة الذين أجرموا في حق أبناء الشعب، وحولوهم على مر السنين إلى مجرد فئران اختبار. وأن السكوت عنها يعد وصمة عار في جبين الوطن، ما لم يتم الشروع الفعلي في تجاوز الاختلالات القائمة، بدل الإمعان في استنزاف ملايير الدراهم من المال العام والاكتفاء بعمليات الترقيع، التي زادت منظومتنا التعليمية قبحا وتشوها، وأساءت إلى سمعة المغرب من خلال احتلاله الرتب المتدنية عالميا في مؤشرات التنمية.

فمنذ الاستقلال ونحن نعيش في دوامة من التخبط والارتجال والعشوائية وانعدام الوضوح والرؤية الاستشرافية العميقة للمستقبل، حيث تواصل مسلسل البرامج والمخططات الفاشلة، الذي لا تكاد حلقاته الرديئة تنتهي حتى تبدأ أخرى أكثر رداءة، دون أن تستطيع كل الوصفات “السحرية” المحلية والمستوردة، النهوض بهذا القطاع الاستراتيجي الهام الذي يعتبر رافعة أساسية للتنمية، بدءا بمناظرة المعمورة سنة 1964 وما تلاها من محاولات الإصلاح وإصلاح الإصلاح: الميثاق الوطني للتربية والتكوين، المخطط الاستعجالي والرؤية الاستراتيجية 2015/2030. فلا الاحتجاجات الشعبية ولا الخطب الملكية ولا تقارير المنظمات الدولية والمؤسسات الوطنية التي رسمت صورة قاتمة عن تعليمنا، استطاعت تحريك الضمائر لإعادة قطار التعليم إلى سكته الصحيحة، في ظل تفشي الفساد ووجود مناهضة خفية لإقامة تعليم ديمقراطي نزيه، أمام غياب الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة.

وإثر ظهور “حركة 20 فبراير” وإقرار دستور فاتح يوليوز 2011 الذي أتى بمقتضيات متقدمة، وتنظيم انتخابات تشريعية مبكرة أفرزت نتائجها أول حكومة يقودها حزب “العدالة والتنمية” الإسلامي، لاحت في الأفق بارقة أمل، واعتقد الناس أنها ستكون فأل خير عليهم في إحداث التغيير المأمول، لاسيما أن قائدها والأمين العام للحزب الحاكم عبد الإله ابن كيران جاء رافعا شعار محاربة الفساد والاستبداد، ولم ينفك يهدد ويتوعد “المفسدين” بالويل والثبور ويعد المواطنين بالإصلاح… فهل أوفى بما قطعه على نفسه من وعود خلال حملة حزبه الانتخابية وما التزمت حكومته بتحقيقه في برنامجها؟

لا شيء يذكر للرجل عدا ما اتخذه من قرارات جائرة ضربت القدرة الشرائية للمواطنين وأجهزت على أهم مكتسباتهم الاجتماعية. ونستحضر هنا أزمة الأساتذة المتدربين بسبب المرسومين المشؤومين، القاضيين بفصل التكوين عن التوظيف وتقليص المنحة إلى النصف، عندما أقسم بأغلظ الأيمان على عدم التراجع عن قراراته مهما كانت قاسية، وإصراره الشديد على عدم السماح بالتوظيف في سلك التعليم إلا لمن يجتاز المباراة، يتلقى تكوينا متينا في المراكز الجهوية للتربية والتكوين ويشارك في مباراة نهاية التكوين، التي يتحدد بوجبها مصيره حسب عدد المناصب المالية المخصصة في قانون المالية. مدعيا حرصه الكبير على ضمان جودة التعلمات والنهوض بمستوى الناشئة.

بيد أنه في غضون عام واحد من تمرير المرسومين الظالمين، باغتتنا نفس الحكومة وذات الرئيس بقرار آخر أكثر تناقضا وارتجالا، يقضي بتوظيف 11 ألف أستاذة وأستاذا من حملة الشهادات العليا، بتعاقد مع الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين مباشرة ودون المرور بمراكز التربية والتكوين، ليتبخر سريعا شعار الجودة. والغريب في الأمر أن تتذرع الوزارة الوصية بسد الخصاص الحاصل في الموارد البشرية والحد من ظاهرة الاكتظاظ. وهو ما اعتبره الكثيرون عذرا أقبح من “الفضيحة”. إذ كيف يعقل أن تتمسك الحكومة بتوظيف 7 آلاف أستاذا متدربا فقط من ال”10″ ألف الذين خضعوا لنفس التكوين، وتعود لتوظيف 11 ألف مباشرة بدون تكوين؟

وفي تطور لافت اتضح أن الحكومات المتعاقبة لاتملك سلطة اتخاذ القرار، ولا أدل على ذلك أكثر من أن حكومة سعد الدين العثماني أثبتت بالملموس أنها تسير على نهج سابقتها. ففي مراسلة وزارية مفاجئة وغريبة موجهة لمديري الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، صادرة بتاريخ 20 شتنبر 2018 تحت رقم 18-0999 حول تدبير الموارد البشرية العاملة بالقطاع، دعا وزير التربية الوطنية سعيد أمزازي إلى ضرورة العودة السريعة لأطر التدريس المكلفة بمهام الإدارة أو التسيير المادي والمالي، إلى وظائفها الأصلية انطلاقا من الموسم الدراسي الحالي: 2019/2018.

من هنا يظهر بجلاء أن أصحاب القرار يدورون في حلقة مفرغة من التخبط والترقيع، مستهترين بمستقبل البلاد والأجيال الصاعدة. وإلا كيف نفسر إسناد مهام التدريس لأشخاص دون تكوين وآخرين غيبتهم أسباب قاهرة أو اختيارية عن مهامهم سنوات طويلة، إذا كانت “الرؤية الاستراتيجية” تسعى فعلا إلى إرساء دعائم مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء، بهدف تكوين مواطن صالح لشخصه ومجتمعه، تلبية شروط المشروع المجتمعي والانخراط في اقتصاد ومجتمع المعرفة؟ فالإصلاح الحقيقي يقتضي حرص المدرسة على القيام بوظائفها في التنشئة الاجتماعية، تنمية الحس النقدي واكتساب اللغات والمعارف والكفايات والتربية على القيم والتعلم الذاتي والبحث والابتكار والتكنولوجيا الرقمية وتطوير أداء التلاميذ، بدل الاستمرار في حشو أدمغتهم وشحنها، وملاءمة المناهج والتكوينات لمتطلبات العصر وسوق الشغل. ولن يتحقق ذلك إلا بوجود أساتذة أكفاء ومتمرسين.

نحن نرفض بقوة أن يظل أجيالنا رهائن لنظام تعليمي متهالك، يساهم في تفاقم البطالة وتفاحش مظاهر الانحراف. فأي نظام تعليمي في العالم يسمح بالتدريس لمن يعوزه تكوين أساسي في مجال علوم التربية ومادة التخصص والديداكتيك والبيداغوجيا والتشريع والإعلاميات من جهة، ودون تكوين مستمر مصاحب أثناء مزاولة مهامه، لتنمية قدراته المهنية من جهة أخرى؟ ألا يعتبر التكوين ركيزة أساسية في ضمان الجودة والرفع من المردودية؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *