وجهة نظر

التعاقد .. أو حين تفقد الدولة عقلها

طالما اعتبر التوظيف سلاحا استعمله النظام المغربي لتقاسم جزء من الثروة مع فئة المتعلمين والمثقفين؛ هذا السلاح الذي استطاع أن يقيه صدمات كثيرة لعل آخرها انتفاضة الربيع العربي؛ حيث عمدت الحكومة المقالة إلى التسريع بالتوظيف المباشر للفئات المتعلمة المحتجة والمنضوية في تنسيقيات في شوارع الرباط؛ كنوع من أنواع المهادنة واتقاء شر الاحتجاجات الاجتماعية.

إن الحديث عن احتجاج المتعلمين لا يفهم في شكله البسيط باعتباره يروم فقط التوظيف والإدماج داخل أسلاك الوظيفة العمومية، بل إن الأمر يتعدى إلى جعل هذا المطلب نقطة غير منفصلة عن المشاكل العامة التي يتخبط فيها النظام؛ فالأساتذة المتعاقدون يرددون شعارات تنتقد النظام بجميع رموزه وليس فقط الاقتصار على طلب الإدماج؛ وهذا معناه أن احتجاج الأستاذ أو الطبيب والمهندس وغيرهم من فئات المتعلمين هو احتجاج اجتماعي غير منفصل عن الاحتجاج السياسي؛ وهو ما يذكي الاحتجاج العام على الأزمة السياسية العامة.

لا يمكن في البدء إنكار أن التوظيف في القطاع الحكومي يؤثر بشكل سلبي على الأداء العام للخدمات المقدمة للمواطنين؛ فالتوظيف بمفهومه المغربي معناه الدخول في دائرة عدم المحاسبة، وربما في سبات عميق تنتفي خلالها كل القدرات والمهارات المطورة لأداء الموظف والقطاع. وهذا لا يعود بالأساس إلى ما يتمتع به الموظف المغربي من حقوق وعلاوات؛ فالموظفون الحكوميون في الدول المتقدمة أكثر حقوقا وأعلى أجرا من نظرائهم في المغرب، ولكن المشكل داخل القطاع العام المغربي هو مشكل بنيوي تابع للسيكولوجية العامة للنظام المغربي الذي تربى لعقود على جعل كل ما ينتمي إليه خارج المساءلة والمحاسبة، متسم بالضعف والهون وقلة المردودية.

وأنا صراحة لا أدري لماذا يريد النظام المغربي فتح باب التعاقد داخل التعليم العمومي. ولماذا التعليم بالذات؟. فإذا ما افترضنا أنه يفعل هذا لجعل فئة المتعلمين من الأساتذة خانعين خاضعين فيتقي شرهم؛ فهذا خطأ كبير سيجعل الدولة مستقبلا تواجه فئات كبيرة من المحتجين، إلى جانب فئات اجتماعية عريضة من المتضررين. فإذا كان الموظف الحكومي في شكله القديم يجد نفسه مستقرا، مطمئنا، مستفيدا من جزء من الثروة العامة التي يعود الجزء الكبير منها لأشخاص لا يقومون بأي دور، فإن الأستاذ المتعاقد غير المستقر هو مواطن ليس لديه ما يخسره؛ وهو ما يجعله جزء من الاحتجاج العام .

وأما إذا كان الغرض هو محاولة لتصحيح مسار التوظيف في القطاع العام، فإن الإقدام على هذه الخطوة بهذا الشكل الارتجالي والانتقائي لن يؤدي إلا إلى مزيد من الاحتجاجات والاحتقانات؛ فالذي اقترح هذا الشكل من الصدع؛ الظاهر أنه لا يمتلك أدنى معرفة اجتماعية ونفسية وسلوكية. فخلق ميز داخل القطاع الواحد بين موظف حكومي يفعل ما يشاء وخارج المحاسبة، وبين أستاذ متعاقد مهدد بالطرد في أية لحظة تحت رحمة المديرين ورؤساء المصالح، هو في حقيقة الأمر ارتجال وسوء تقدير ستكون له عواقبه الوخيمة على المدى القريب.

إن إصلاح القطاع الحكومي إذا ما كان للدولة النية في إصلاحه، وهذا مستبعد جدا، فإنه يصبح من الواجب خلق نقاش عمومي بين جميع الفرقاء والمختصين؛ بجعل إصلاح الوظيفة العمومية إصلاحا للقطاع برمته لا يستثنى من ذلك أحد مهما علا أو دنا؛ وهو ما يتطلب أن تشمل المحاسبة الجميع لا أن تقتصر على أستاذ لا حول له ولا قوة. فأي منطق إصلاحي هذا الذي يجعل جماعة من الموظفين داخل مؤسسة تعليمية يقومون بنفس الواجب بينما لا يتمتعون بنفس الحقوق؛ فيحاسب المتعاقد ويستثنى المرسم الذي يعتبر خارج دائرة المحاسبة.

وإلا فالإصلاح بمنطق الإصلاح يبدأ بالذين أفسدوا ويفسدون لعقود بلا رقيب ولا حسيب، وليس لأستاذ يقضي يومه في تقويم السلوكات وإصلاح الهفوات.

إن الحديث عن كون الأستاذ المتعاقد يتمتع بالحقوق نفسها التي يتمتع بها المرسم هي مغالطة وكذبة من قبيل ما اعتاد أن يردده الكاذبون في الدوائر العليا الرسمية. فالأستاذ المتعاقد وضعيته هشة جدا يعيش في الغالب الميز من لدن من اعتقدوا أن الترسيم ميزة. ولو أن الوزارة كلفت نفسها مؤونة البحث عن جملة الأزمات والمضايقات التي يعانيها الأستاذ المتعاقد لما صح لوزير أو حقير أن يقول بلا استحياء إن المتعاقد له نفس حقوق المرسم. وربما كان هذا الميز دافعا للكثيرين لمزيد من النضال الذي يزيد من إرباك القطاع والتأثير على الأداء، ولما لا التحول إلى المطالب السياسية التي تجعل فئات المتعلمين في مقدمة الفئات المتضررة على كثرتها داخل البلد.

إن ربط المسؤولية بالمحاسبة يجب أن يكون سلوكا عاما، يحتاج لسنوات من زرع هذه الثقافة داخل القطاعات العامة بلا استثناء وداخل الدوائر العليا وليس قصرا على أستاذ لا حول له ولا قوة . بل إنه قبل هذا وجب إصلاح شامل لمفهوم الإدارة حتى يكون الجميع تحت سلطة القانون وليس تحت المزاج والمحسوبية والزبونية التي تطبع سلوك الإدارة الفاسدة. فحين نكون كلنا متعاقدين ويشيع هذا السلوك إذ ذاك سيكون التعاقد ميزة وشرفا وليس على شكله الحالي ضربا من العبودية وخضوعا لمن هم خارج المحاسبة. أظن أن الأمور لن تكون بخير وسوف تسير نحو الأسوأ في ظل سياسة بلد ميزتها التخبط والعشوائية… الكل فيها يحتج.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *