وجهة نظر

في بعض معاني المسؤولية الجماعية

عندما يَطرق الماضي باب الراهن

لسنَا مسؤولينَ بدرجة مِن الدَّرجات عن قصور كثير منَّا عن ضُعف الاسترجاع لبعض الوقائع والمسارات مِن تاريخنا القريب، ولا مَعنيِّينَ بمدى تقديرهم أو تبخيسهم للتاريخ بالنظر إليه في الظاهر على أنه لا يزيد عن الإخبار، وهو في باطنه وما أفرزه من تأثير؛ نَظَر وتحقيق، وعِلْمٌ بالوقائع والكيفيات وحدوثُها دقيق، وحرِي بأنْ يُهتَم به ويُعَدَّ من الأساسيات خَليق.

ولكنّا نَميلُ إلى اعتبار ما يحدث وما قد يحدث مسؤولية جماعية ومَصيرا مُشتَرَكا، وأننا قريبو عهد بسنواتٍ بَصَمَت تاريخنا، وكانت مُسبِّباتُ مع جرى فيها وفي أعقابِها قريبةُ الشَّـبَهِ بالأسباب الحالية والظُّروف العامة، مع مراعاة ما يُميِّز سياقنا الراهن وفهْمِ اختلاف طبائع العمران البشري وطَفرات التحولات الاجتماعية والسياسية والتكنولوجية. ولا يتحقَّق معنى المسؤولية الجماعية إزاء واقع ومآل بلادنا إنْ كان أغلبُنا مقطوع الذاكرة عن وقائع و”أحاديث فيما جَرى”، مغضوضَ الطَّرف عن تقاطُعات مَاضينا بِراهِنِـنَا واستمرار أدائية الفواعل التاريخية والاجتماعية باعتبارِ طابَع الاستمرارية لا القطائعية الذي يميِّز تاريخ بلادنا، مجتمَعا ومَخزنا ودولة. ولم يسبق ليَ أنْ صادفتُ في تواريخ بعض الأمم الغابرة والمعاصرة لنا مَن أفقَدَتْ تاريخها أثناء سَيْرها للمستقبل أو في لحظات تعثُّرها وإخفاقاتها. وقد عبَّر الأستاذ محمد عابد الجابري عن مَثيل هذه الحقيقة في حوارٍ له مع مجلة عربية، بقوله “إننا لا نشعر بالاستمرارية؛ لأننا نفتَقِد تاريخنا”، فتكثُر أخطاء الحُـكّام والعوام، ولا نُـقدِّر أكلاف السياسات في بعض القطاعات.

لهذه الخاطرة ارتباط بما يقَع من وقائع تُثير الزوابع ولها عشرات التوابع.. فرغم ما تعيشه المملكة اليوم من انفتاح وتعددية سياسية ومكتسبات على مستوى حقوق الإنسان والإشعاع الروحي والعلاقات الخارجية والبنيات التحتية..؛ إلا أنها تعيش تناقضات فجّة، ومشاكل متصاعدة يخلقها الدستور غير المكتوب، وسياسات خاطئة الوجهة والمقصد، وتغليب للمقتَرَب التنموي على الديمقراطية، والأخطر؛ الإماتةُ القاصدة للسياسة، والتدرُّج السالِب في نزع الاختصاص السياسي مِن الفاعلين والفرقاء ودَرْء التسيُّس عن المجتمع، وعدم ممارسة سياسة الحقيقة. وفي الحقيقة، فالغائب في المغرب الراهن هو الحقيقة!

والناظر في ما بَعدية الاستقلال – وبتفاوتات محدودة – يرى أنّ على رأس الأسباب التي أودَت لحالة الاستثناء (7 يونيو 1965) وتعطيل الحياة النيابية (على عِلَّتها وقتذاك)؛ كانت في العمق، مرتبطة بالإعطاب الثقيل الذي أحدثه الحسن الثاني في النسق السياسي المركزي، بقَتل السياسة بتعبير أوضح.

فالصِّدامية الحَـسَنية الحادة مع الفاعل الوطني السياسي، ومحاولات تحييده عن المجال، في الوقت الذي كانت فيه أحزاب الحركة الوطنية المغربية وأساساً “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” و”الاستقلال” لهما مِن الامتداد القروي ما يفوق الامتداد الحضري، وفي المدينة كذلك؛ امتداد في العمال والطلبة والفلاحين والموظفين. والتجاهُل الغريب لارتفاع منسوب المتعلِّمين في البلاد، وبالتالي منسوب الوعي السياسي وثقافة الاحتجاج على دستور ممنوح في 1962، وانتخابات مزورة في 1963، واعتقالات مُوَسَّعَة في يوليوز 1963، ودعْم فاضح لـ”الفديك”، وتشكيل حكومة مائعة من قوى برلمانية لم يتعرّف الشعب إلى أغلبها، وسَن سياسات تعليمية هدفها تقليص إنفاق الدولة على القطاع وحرمان الحركة الوطنية من ذخيرة تلمذية ناضجة في عمر 17 سنة، وَوَلَعُ الحسن الثاني بالمواجهات، وتقريب الضباط والأمنيين (تعيين محمد أوفقير في الداخلية سنة 1964)، ورَفْض مشروع عبد الرحيم بوعبيد للإصلاح الزراعي.. وغيرها من الأمور؛ جاءت بانتفاضة 23 مارِس كحصيلة تفاعُلِ كل ذلك.

نعم؛ كان للتلاميذ دور رئيس في تلكم التجربة، لكنها كانت لحظة انتفاضية، في عُمقِها، هي الابنة الشّرعية لزمن الإيديولوجيا والسياسة.
فهل يمكن اعتبار احتجاج تلاميذ اليوم (وإن بدَا المطلب مقصورا على رفض التوقيت الصيفي على مدار العام)؛ عودةٌ وجودية لزمن الإيديولوجيا والسياسة؟ وإحدى تجليات الكوامِن النشيطة للربيع العربي في البنيات التحتية للشبيبة الطلابية والتلامذية؟ وهل يعني الصُّدور عن سياسات خاطئة (اعتقالات الريف، أحكام قاسية في حق بعض نشطاء حراك جرادة وانتفاضة العطش في زاكورة، خَلْق الحِزب الأغلبي، التجنيد الإلزامي، الساعة الإضافية، محاكمة توفيق بوعشرين بـ 12 سنة سجنا نافذا، احتكار السياسة الخارجية وتدبير الدين، الهجرة، التفاوتات المجالية وسوء توزيع الثروات، فشَلُ السياسة التعليمية، بُطلان نجاعة المشروع التنموي، تنفُّذ بعض رجال المال والسياسة، تنامي مظاهر العنف، الفساد الإداري والمالي بالجامعة المغربية، الإعلاء من الفن الهابط وصناعة نجوم غناء تُفَهَاء…) صدُور نفس ردود فِعْل طَلَبة وشباب 1965 و 1984؛ فيما يُفيد تَشابُهية المسار والآثار؟!

ولأنَّه لا يمكن قيادة البلد بالرافعة التنموية فحسْب، ولا بالخطاب الاجتماعي فحسب، فيَلْزَمُ إعادة الحياة للسياسة، لأنَّ جيل 2000 يجلس على رقبة تراث سياسي عملاق، وله في يومه هذا مَنزَع سياسي، ومطالب سياسية، وتزداد حرارة حضوره ومَطالبه بالتوازي مع حديث الدولة المتكرّر عن “الملف الاجتماعي، والعناية بالشباب، والنهوض بهم، وتوجيه سياسات عمومية إليهم، والخطة الإستراتيجية لإصلاح التعليم..”، وكأن في الأمر تناقضاً؟!

لماذا؟

الجواب عن تلكم الأسئلة، وعن وجوبية مسؤوليتنا الجماعية من عدمها، وعن مُستقبل بلادنا، وعن تشابُه الماضي بالآتي كذلك.. هو ما نراه لا ما نتحدِّث فيه!
والله أعلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *