وجهة نظر

 من المسؤول عن إثارة الأزمات ؟

في العامين الأخيرين شهد المغرب عددا من الاحتجاجات الاجتماعية، عمت عددا من المدن المغربية، كان أبرزها الإحتجاجات التي هزت الريف المغربي ومدينة الحسيمة على وجه التحديد، والتي تفجرت على خلفية مقتل بائع السمك محسن فكري وطحنه في حاوية للأزبال.

كانت إحتجاجات الريف من المحطات الأساسية في مسار مغرب ما بعد الربيع الديمقراطي، سياسيا وإجتماعيا وحقوقيا، كانت مجرد إحتجاجات يطالب من خلالها المحتجين، بضرورة فتح تحقيق جدي وشفاف، في قضية مقتل بائع السمك محسن فكري بطريقة وحشية، لكن سرعان ما تحولت إلى أطول حركة إحتجاجية، وأشدها وثيرة بعد حراك الربيع العربي في المغرب، تجاوزت مطلب التحقيق في مقتل محسن فكري وطحنه، إلى المطالبة برفع التهميش والإقصاء عن مدن الريف، والمطالبة بتنمية شاملة لمنطقة الريف، وتقديم المسؤولين عن فشل المشاريع التنموية، التي أطلقها العاهل المغربي محمد السادس، خاصة مشروع منارة المتوسط، إلى المحاكمة والمحاسبة.

تواصلت الإحتجاجات في الريف المغربي لعدة أشهر، دون التوصل لحل جدي لإخماد شرارتها، بل زادت حدتها بعد مواجهتها  بمقاربة أمنية، من طرف النظام المغربي، بدل الحوار والإستجابة لمطالب المحتجين، التي لا تتجاوز  سقف المطالب الإجتماعية، متجلية في المطالبة بتوفير مشتشفى لعلاج مرضى السرطان، وجامعة، ومشاريع تنموية تقيهم شر البطالة وشبح العوز والفاقة.

إتخذت الإحتجاجات في الريف منحى أكثر تصاعدي، بعد إعتقال الناشطين وقادة الحراك، وزجهم في السجون والمعتقلات، ما خلف موجة من الإستياء لدى عموم المواطنين المغاربة، لتجتاح على إثره  مظاهرات التضامن مع المعتقلين ومع حراك الريف عامة، مختلف المدن المغربية من الشمال إلى الجنوب.

كان الربيع الديمقراطي في المغرب سنة  2011 قد ترتب عنه مجموعة من المكتسبات الديمقراطية، كانت هذه المكتسبات بمثابة اللبنة الأساسية لمسار الإصلاح السياسي بالمغرب، كان النهوض بحقوق الإنسان وحمايتها، أهم المكتسبات التي  حرص النظام المغربي على تكريسها في مسار  الإصلاح السياسي هذا، إلى جانب مكتسبات أخرى جعلت من المملكة المغربية، إستثناءا فريدا، ونموذجا في المنطقة، إستدعت إشادة واسعة حينها من قبل مختلف قوى المنتظم الدولي.

ومع تصاعد منحى الإحتجاجات بالريف، وإنتقال شرارتها لتعم مختلف المدن المغربية، كجرادة وزاكورة، إختبر مسار الإصلاح السياسي بالمغرب، ليتضح أنه مسار هش غير جدي، مجرد محطة لإخماد نار الغضب الشعبي إبان الربيع العربي، ليعود النظام المغربي إلى سياسة القمع المعهودة منه  والترهيب بحق المحتجين، فلا يجد أدنى حرج في تلفيق التهم للمعارضين وتسخير القضاء، للإنتقام منهم بأحكام جائرة وظالمة، كما هو الشأن بالنسبة لمعتقلي الريف ومعتقلي جرادة، أضف إلى ذلك التراجع المخيف عن هامش حرية الصحافة، حيث تم تسجيل العديد من حالات الإعتقال والمحاكمات  للصحفيين وتلفيق تهم خطيرة لهم كما حدث مع الصحفي حميد  المهداوي، وإدانتهم بأحكام قاسية كما هو الشأن بالنسبة للصحفي توفيق بوعشرين مدير تحرير جريدة اليوم24 الذي حكم عليه مؤخراً  ب 12 سنة سجنا نافذا.

هذا الإحتقان الإجتماعي الذي يعيشه المغرب في السنتين الأخيرتين ولا زالت تداعياته تلقي بضلالها على المشهد السياسي بالمغرب، وراءه مطلب إجتماعي صرف يتلخص في المطالبة بتوفير ظروف العيش الكريم للمواطنين، وإحترام كرامتهم دون تهميش أو إقصاء.

هذا الغليان الشعبي الذي تتزايد وثيرته يوما بعد يوم نتيجة للفساد المستشري في كل المجالات وكل القطاعات، وهو نتيجة حتمية لسياسة إستنزاف خيرات الوطن ومقدراته، والتوزيع الغير العادل للثروة، هذه السياسات أفرزت ظاهرة التفاوت الإجتماعي والطبقي، بحيث تركزت الثروة في يد أقلية أوليغارشيا، بينما الغالبية الساحقة من الشعب المغربي يدبر مصيره بيده، كما أفرز أيضالإجتماعي ظاهرة التباين  المناطقي في المغرب، حيث أن هناك مناطق تعيش فقرا شديدا ومدقعا، وتنتشر فيها البطالة بين مختلف الفئات فيها بشكل مهول، إضافة إلى تردي وضع البنيات التحتية فيها، فضلا عن تردي الوضع الصحي والتعليمي في هذه المناطق، هذا الوضع ولد لدى سكان هذه المناطق، الإحساس بالتهميش والإقصاء، ما يدفع بهم إلى الإحتجاج والمطالبة برفع الحيف والتهميش عنهم، مثل  ما حدث في الحسيمة وجرادة وزاكورة، وغيرها من بؤر التوثر والإحتجاج.

النظام الحاكم في المغرب وعن طريق حكومة مكونة من عدة أحزاب سياسية مختلفة التوجه والايديولوجية، يتزعمها حزب العدالة والتنمية ذو التوجه الإسلامي، (بقيادة أمينه العام سعد الدين العثماني، وهو رئيس الحكومة المعينة من طرف الملك محمد السادس)  أغرق البلاد في الديون الخارجية، حيث بلغت نسبة المديونية مستويات قياسية،(92.9%) حسب تقرير المجلس الأعلى للحسابات(مؤسسة رسمية)، بالإضافة إلى إثقاله كاهل المواطنين بالزيادات الصاروخية على مستوى المواد الأساسية، وزيادة نسبة الضرائب وغيرها من الإجراءات اللاشعبية، ما جعل البلاد تعيش هذا الواقع المرير، الذي يزداد مرارة وخطورة يوما بعد يوم، في غياب أية مبادرة لإخماد هذا الغضب الشعبي، وتخفيف حدة  السخط والإستياء، الذي تتزايد وثيرته وتتسع رقعته، ليشمل كل فئات المجتمع المغربي.

هذه الزيادات، خاصة التي يشهدها قطاع المحروقات، كانت سبباً مباشرا في إحتجاج السائقين المهنيين، وأرباب شاحنات نقل السلع والبضائع، وخوضهم لإضراب عام عن العمل دام لعدة أيام في الأسبوع المنصرم، إحتجاجا على زيادة أسعار المحروقات من جهة، ومن جهة أخرى على إشكالية الحمولة الزائدة الواردة في مدونة الطرق، وكذا على تعريفة الطريق السيار.

هذا الإضراب شمل جميع المواد الغذائية، الشيء الذي أدى إلى إرتفاع أسعارها بشكل قياسي، الامر الذي زاد من محنة الأسر الفقيرة، وعمق أزمة العائلات  المغربية المحدودية الدخل، على كثرتها في المجتمع المغربي.

موجة الإحتجاجات شملت كل المجالات وإنخرطت فيها كل الفئات العمرية في المغرب، حيث وفي بحر الأسبوع المنصرم، كانت المؤسسات التعليمية في مختلف المدن المغربية، فضاءا للإحتجاج من طرف تلاميذ وتلميذات المستويين الإعدادي والثانوي، رفضا لإستمرار العمل بالتوقيت الصيفي، وإعتباره توقيتا رسميا للمملكة المغربية، عوض توقيت غرينتش المعمول به في السنوات الماضية، إحتجاج رافقه إمتناع الآلاف من التلاميذ من الإلتحاق بحجرات الدرس، مع تنظيم مظاهرات حاشدة خارج أسوار المؤسسات التعليمية، وأمام بوابات بعض المؤسسات العمومية، كالعمالات والولايات قصد إيصال صوتهم الرافض لقرار الحكومة، إلى مراكز صنع القرار في المملكة، ومن المنتظر أن تستمر هذه الإحتجاجات، مع إمكانية التصعيد وإنضمام فئات أخرى وفي قطاعات أخرى، خاصة وأن قرار ترسيم ساعة+1 أثار موجة من الإستياء والسخط، لدى عموم المواطنين المغاربة، بل هناك إحتمالات قوية لخوض إضراب عام يشل جميع القطاعات، خصوصا في حالة تجاهل مطالب المحتجين من طرف النظام المغربي، وتشبت الحكومة بقرارها هذا، الذي لا يراعي مصلحة المواطنين.

رغم حالة من الإحتقان والرفض الشعبي لقرارات وسياسات الحكومة المغربية، التي تعبر عنها موجة الإحتجاجات التي هزت كل مناطق المغرب وما زالت تتواصل إلى اليوم، لم تكلف الحكومة المغربية نفسها عناء البحث عن حلول جدية، بقدر ما تعاملت مع هذه الحالة بصمت وتجاهل ثارة، وبمقاربة أمنية صرفة ثارة أخرى، وهذا ما يعمق الأزمة ويعقدها ويطيل أمدها، ففي الوقت الذي كان من المفترض على الحكومة كما هو معمول به في الدول الديمقراطية التي تحترم شعوبها وتقدر إرادتها، أن تستنفر كل اجهزتها للتوصل لحلول ممكنة لحل المشاكل العالقة واتخاذ إجراءات إستعجالية تستجيب لحاجات المواطن وتطلعاته وتلبي طموحاته ومتطلباته، سارعت الحكومة المغربية كعادتها إلى سن سياسة القمع والترهيب، بإطلاق القوات الأمنية على المحتجين كما حدث مع التلاميذ المحتجين، وكما سبق لها التعامل بنفس الطريقة مع إحتجاجات الريف وجرادة وزاكورة، وهذا ليس غريبا في عرف الأنظمة الإستبدادية التي لا مجال للتعبير عن الرأي والمطالبة بالحقوق في عرفها وقاموسها.

إن ما يعيشه المغرب اليوم من إحتقان شعبي، الذي يبدوا أنه سيتمر إلى أمد طويل، وقد يتطور إلى ما لا تحمد عقباه، ناتج إلى جانب ما تحدثنا عنه أعلاه، عن غياب الوسائط الإجتماعية، من أحزاب سياسية ونقابات، ومختلف الهيئات المنتخبة، وإنهيارها وفقدان المواطن المغربي الثقة فيها، بعد أن خاب ظنه فيها، بعدما أدارت ظهرها له، وأصبحت المتحدث الرسمي باسم مصاصي دم المغاربة، وناهبي مقدراتهم وثرواتهم، وكانت مطية لتمرير قرارات وسياسات مجحفة، تمس كرامة المواطن المغربي، وتهضم حقوقه.

لم يكن أشد المتشائمين في المغرب يظنون أن بلادهم قد تزيغ عن مسار الإصلاح السياسي الذي دشنه النظام المغربي، خلال مرحلة الربيع الديمقراطي بشكل خاص، كان المغاربة يظنون أن مستقبلاً زاهرا ينتظر وطنهم، وطن يسموا بحماية حقوق مواطنيه، ويزدهر بحفظ كرامتهم، وينموا بصون مكتسباتهم الديمقراطية، لكن هذه الأحداث المتوالية أظهرت العكس تماماً، أظهرت بما لا يدع مجالا للشك أن النظام المغربي حقا وصدقا قد زاغ عن المسار الصحيح، وقطع أشواطا لإخفاء أثره ومعالمه، والعودة إلى طبعه القديم، طبع الإستبداد والظلم والقمع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *