وجهة نظر

إلى المغتربين والمغتربات في المنفى الثقافي الاستعماري

بمناسبة الذكرى الـ 29 للتجمع النسوي

في الوقت الذي تواصل فيه الشقيقة تونس تفرد سياستها المعتادة في الصيد في المياه العكرة، خاصة في مجال الأسرة وحقوق المرأة، حيث وافق الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي خلال كلمة ألقاها بإلغاء المنشور الذي يمنع المرأة التونسيّة من الزّواج بأجنبي غير مسلم وكذا المساواة في الميراث بين الجنسين، معلّلاً قراره بالتغيّرات الاجتماعيّة “التي تعيشها المرأة في تونس وظروف دراستها وعملها في الخارج، وأيضاً احتراماً لرغبتها في العيش وفق اقتناعاتها الشخصية، خلافاً لما جاء في القوانين التونسية القديمة”.

جاء ذلك نزولا عند رغبة بعض التونسيات المستلبات تراثيا و حضاريا، بحيث وقّع ائتلاف (أبواق مجهرية) ضمّ 60 جمعية تونسية خلال آذار (مارس) الماضي بياناً طالب فيه أصحابها بإلغاء إجراء صادر عن وزارة العدل عام 1973 ويحظر زواج التونسيّات المسلمات بغير المسلمين من الأجانب.

كل هذه الشطحات العنترية، أثارت حفيظة فئة واسعة من التونسيين في الداخل والخارج بسبب ما اعتبروه تهديداً لثوابت الشريعة الإسلامية. كما انتقد علماء كثر في تونس وغيرها من دول العالم الإسلامي هذا الانسلاخ غير المبرر في دولة مسلمة، من جهته وكيل الأزهر في مصر عباس شومان وجه دعوة للرئيس التونسي قائلاً في بيان نشرته الصفحة الرسمية لمكتبه أنّ «المواريث مقسّمة بآيات لا تحتمل الاجتهاد»، رداً على ما قاله السبسي من أن مسألة الإرث «من أمور البشر وتركت للاجتهاد»..

و اليوم في الجزائر، بدأنا نسمع نعيق بعض الأصوات الجزائرية، تغرد خارج السرب، في ذات الموضوع ، متبجحة أن السياسة الأسرية التونسية نموذجا قد يحتذى به في الجزائر!!

عيب و عار عليكم .. أي تطبيل هذا ، و أي تزمير !! كنا نعتقد ان الجرأة والاغتراب الثقافي والأيديولوجي مهما بلغت ببعض المستلبين في بلداننا المسلمة المحافظة لا تصل بهم إلى حد المساس بمشاعر الشعوب و بثوابتها التي تشكل الحارس الأمين لوحدتها و سلمها الاجتماعي. و الشعب الجزائري- من هذه الشعوب- إذا لم ينتبه مبكرا للخطر فيضع خطا أحمرا لا يسمح بتجاوزه، فإن هذه الطائفية السياسية المدجنة غربيا قد تمتد منها أياد آثمة لتنال من الدين الحنيف الذي يمثل حجر الزاوية في صرح المجتمع الجزائري المتماسك، هذا التماسك الذي بنت معاقله جبال من جماجم الشهداء و أنهار من الدماء الزكية طوال قرون من الجهاد ضد سياسات ” فرق تسد” وما انضوى تحت لوائها من شرائع المسخ والفسخ و النسخ ..فأفشلت الأسرة الجزائرية المسلمة بنسائها و رجالها عبر العصور مخططاتهم الشيطانية، إذ حافظت على ذاكرة أبنائها، متحدية إياهم، راشدة اختارت الإسلام اختيارا حضاريا و اكتحلت بصيرتها بإثمد الحقيقة، فأمنت بالله واستقامت على نهجه، رغم المحن والصعاب !!

حري بهؤلاء القوم اليوم ، أن يعودوا للأمس القريب، ليتدبروا الدرس البليغ، الذي قدمته نساء الجزائر، ذات يوم خميس 23 جمادى الأولي 1410هـ الموافق ل 21 ديسمبر 1989 على الساعة 14 ظهرا، أين خرجت حرائر الجزائر في تجمع نسوي حاشد أمام مقر المجلس الشعبي الوطني (البرلمان)، تعبّرن فيه عن تمسّكهن بدينهن ووطنهن وعروبتهن وأمازيغيتهن.. وعن رفض المرأة الجزائرية المسلمة لكل ما يمسّ كرامتها وشخصيتها!! تجمّع حاشد للنساء لم يسبق له مثيل في تاريخ الجزائر لحد الساعة، وكان أن افتتح التجمع الشيخ “أحمد سحنون”، رئيس رابطة الدعوة الإسلامية رحمه الله، وقرأت لوائح و مطالب عن قانون الاسرة و حقوق المرأة و كرامتها!!

فحري ببعض المستلبات ثقافيا و حضاريا المطالبات اليوم بالنموذج التونسي الهجين، العودة الى هذا التجمع و إفرازاته تكميما للأفواه المتشدقة في الداخل و الناعقة من الخارج .. لنقرأ بهدوء و روية منها على سبيل المثال لا الحصر، العريضة الموجهة من المتجمعات الى رئيس البرلمان كسلطة تشريعية، حيث جاء فيها خصوصا، بعد التحية قولهن لأولئك المغتربين والمغتربات في المنفى الثقافي الاستعماري:

“نحن المسلمات الجزائريات ، بنات عقبى و طارق ، المجتمعات هذا اليوم لا نعتقد أننا في حاجة إلى تذكيركم ، بأن القانون إنما يوضع لخدمة المصلحة العامة ، فهو لدى القانونيين تعبير عن إرادة المشرع الملزمة لتحقيق الصالح العام”.. مطالبة بالتطبيق العملي للمادة الأولى و التاسعة من احكام الدستور الجزائري، مع “إعادة النظر في كل قوانين الدولة على ضوء مبادئ الشريعة الإسلامية ومقاصدها مع إلغاء كل ما يتعارض مع النصوص القطعية والاجماع” ، مطالبات بـ “:

– وضع حد للهجمة المسعورة التي تشنها بعض وسائل الإعلام على مشاعر المواطن الجزائري

– وضع حد للهجوم على مقومات الأمة .

– وضع حد للمساس بكرامة المرأة المسلمة و المؤامرة المبيتة على الأسرة.

منددة في ذات الوقت، باللهجة الوقحة التي تستعملها بعض الأحزاب في خطابها السياسي ضد ثوابت الأمة، وكذا الجمعيات الداعية الى اللائكية التي تحركها أيد خفية والتي تعتبر دعوتها مخالفة للدين، متنكرة للتاريخ، خارقة للدستور..”

تلك هي بعض مطالب ” التجمع النسوي” عام 1989 ، التي تقول عنها العريضة ” أنها مطالب جاهد من اجلها المواطن الجزائري المسلم… من أجل نبذ كل ما هو غريب والانتقال بهذه الأمة نحو اسلامها حتى يكتمل استقلالها.”

لا لشيء إلا لأنّ “الإسلام – كما جاء في بيان الرابطة يومها- قد أحاط الأسرة بسياج آية في الدقّة والإحكام، وحماه بمشاعر الحبّ والمودّة والسّكينة والرّحمة والوئام، وكتب عليه هذه اللّافتة المنبّهة واللافتة للعقول والأفهام، فقال: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” .. “فالإسلام لم يهتم في تعاليمه المُحكمة بشيء كما اهتم بالأسرة، بحيث لم يترك شأنا من شؤونها كبيرا كان أم صغيرا إلاّ تولاّه بالتشريع المُحكم والبيان الكافي، لأن الأسرة هي الحجر الأساسي والعمود الفِقري للمجتمع، فصلاحه بصلاحها ونجاحه بنجاحها، ومن ثمّ فلمّا أراد العدّو بالمجتمع الإسلامي سوء بدأ بالأسرة، وإلاّ فما هذه الضّوضاء حول المرأة وقانون الأسرة؟ إنّه ليس في الإسلام شيء يسمّى قضية المرأة أو قانون الأسرة، فالمرأة في الإسلام لبنة في بناء الأسرة، والأسرة لبنة في بناء المجتمع، والمجتمع هو البناء المتكامل الذي يحرص الإسلام على رعايته وسلامته وسعادته، ومن ثمّ فالإسلام نظامٌ شاملٌ عام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد”.. خاتما نداءه لبنات حواء خاصة، بقوله: “فيا أيّتها المرأة المسلمة، تمسّكي بدينك وأثبتي عليه، ولا تسمعي لصوت غير صوته، ولا تمتثلي لحكم غير حكمه، والله يتولاّك برعايته ويرفع بك رأس الإسلام عاليا، ويجعلك قدوة لنساء العالم أجمع والعاقبة للمتقين ولا عدوان الاّ على الظالمين، والحمد لله رب العالمين.”

و اليوم بعد مرور 29 سنة على هذا التجمع النسوي المبارك، وأيضا بعد مرور أزيد من نصف قرن من رحيل الاستكبار الفرنسي، ما تزال كثير من المظاهر الشاذة بارزة في مجتمعنا المسلم، ذلك أن الاستعمار آلى على نفسه أن تمتد يد إجرامه إلى افساد المرأة والأسرة، لعلمه أن تحطيم المرأة والاسرة آخر قلعة تقف في وجه مخططه التغريبي، لذا طالب التجمع من نخبة المجتمع الجزائري وقادته، في ذلك الزمان الجميل، أن يرسم خطة لوضع حد للمتاجرة بالأعراض والعفة والتكفل بمشاكل تلك الشريحة لإعادة إدماجها في الحياة الاجتماعية النظيفة، لأن المرأة لا تقل عن الرجل ولا تساويه، بل تكمله ، كما يقول المفكر الإسلامي مالك بن نبي رحمه الله. و أنه لمن العدل والانصاف أن يكرم المجتمع المرأة أما و بنتا و أختا و شريكة حياة و يكافئ جهدها التربوي وتضحياتها في سبيل رقي المجتمع و ازدهاره، فهل من معتبر.. (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *