وجهة نظر

هجرة مهاراتنا الطبية لفرنسا.. نزيف متدفق لأدمغتنا، قاتل لمستقبل أمتنا

إن “هجرة العقول” أو “هجرة الادمغة” هو مصطلح يطلق على هجرة العلماء والمتخصصين في مختلف فروع العلم من بلد إلى آخر طلبا لرواتب أعلى أو التماسا لأحوال معيشية أو فكرية أفضل، وعادة ما تكون هجرة العقول من البلدان النامية إلى البلدان المتقدمة، كما تعد المنطقة العربية أكثر المناطق التي يضطر علماءها وكفاءاتها الى الهجرة وهم من المهندسين والأطباء وعلماء الذرة والفضاء، حيث أن أكبر نسبة مهاجرين للأدمغة في العالم من سكان المنطقة العربية

وقد أظهرت بعض الدراسات التي قامت بها جامعة الدول العربية ومنظمة اليونيسكو والبنك الدولي، أن العالم العربي يساهم في ثلث هِجرة الكفاءات من البلدان النامية. وتذكر بعض التقارير أن 54% من الطلاب العرب، الذين يدرسون في الخارج، لا يعودون إلى بلدانهم، مما يفرز تبعات سلبية على مستقبل التنمية في عالمنا العربي.

من هذه الدول، طبعا دول المغرب العربي ، والجزائر خصوصا، التي ساهم قربها من أوروبا ، إذ هي مرمى حجر من الحضارة الغربية في الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط !! وقد كتبت منذ ثلاث أو أربع سنوات خلت، مقالات مقتضبة عن سير نجاح بعض العقول المهاجرة في الغرب، مثل ما كَتبتُه عن قصة نجاح، الجَرَّاحٌ الجزائري اللامع الذي قاطعته فرنسا، فاستفادت منه ومن إبداعاته أمريكا، أعني بذلك الدكتور محمد رضا سويلاماس استشاري جراحة الصدر بمعهد القلب والأوعية الدموية في مستشفى كليفلاند كلينك في أبوظبي حاليا، وهذا الطبيب الجزائري شغل عدة مناصب في مستشفيات أوروبية وعمل كطبيب أخصائي في قسم جراحة الصدر في مستشفى إيراسموس في بروكسيل ببلجيكا، وكان سابقاً مديراً لبرنامج زرع الرئة للتليف الكيسي في مستشفى جورج بومبيدو في باريس بفرنسا، إلا أن فرنسا لم تعطيه كامل حقوقه، وتآمرت بعض الجهات الفرنسية ضده، بالعقلية الاستعمارية المعهودة لديهم عموما، فاضطر الطبيب الجزائري لحزم حقائبه ورحل إلى أمريكا في العام 2009 لتفتح له الأبواب على مصراعيها بمخابر آخر صيحات التكنولوجيا الطبية، فعمل أستاذاً زائرا في قسمي جراحة الصدر وزرع الرئة في مستشفى كولومبيا الجامعي في مدينة نيويورك.. والف هذا البروفيسور كتابا بالفرنسية يحكي فيه المؤامرة الفرنسية ضده تحت عنوان ” لون المشرط “،

وقد استضافته القنوات الفرنسية وبعض الجرائد في حوارات مطولة، معنونين ذلك بعناوين كلها اعتذار وأسف للخسارة التي لحقت فرنسا بفقدانها لمثل هذه النوعية النادرة من أيقونات العقول الطبية الذهبية، فاستفادت منه المستشفيات الامريكية والخليجية.. وقد علقت أيامها وسائل الاعلام الفرنسية بعناوين، تنم عن الندم الكبير عن تصرفات بعض عنصرييها، منها على سبيل المثال لا الحصر: “القصة الرائعة لهذا الجراح الجزائري اللامع الذي قاطعته فرنسا!” و “مستبعد من التراب الفرنسي، طبيب جزائري أجبر على الذهاب إلى المنفى في الولايات المتحدة.”

وهي فعلا قصة رائعة فعلا، لخسارة عقل من كنوزنا المهاجرة، أو قل تدفق حبر “نزيف أدمغتنا” ذهب هدرا، إذ كان في إمكان هذا العبقري إرواء عطشى حقول مستشفياتنا العربية الجدباء، لكن ما كُلُّ ما يَتَمَنّى المَرءُ يُدرِكُهُ — تَجرِي الرّياحُ (مكرهة ) بِما لا تَشتَهي السَّفنُ !!

كما كتبت أيضا عن نجاح السواعد والعضلات العربية في المهجر وما أكثرها، منهم مقالنا عن المصارع والرياضي الشاب الجزائري خالد لعلام المقيم في السويد، والذي افتك الميدالية الذهبية الدولية للمصارعة لدورة نهاية عام 2017، وقد لاقى مقالنا ذاك استحسانا لدى القراء الشباب العرب والمهتمين بقطاع الشباب عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ونقلته حتى بعض يوميات الصحافة العربية المهاجرة بينما تناسته صحافة بلده وأرض أجداده الجزائر، وراسلني يومها أحد كوادرنا في الغرب، وهو من المشرفين في أوروبا على برنامج آلي في وكالة الفضاء الأمريكية “الأنزا”، مستبشرا، بقوله “ماذا لو بقي هذا المصارع الشاب، يصارع كثبان صحراء الجزائر مع جمالها في أرض أجداده؟؟ أكيد سيموت عطشا معهم والماء على ظهورهم محمول، في أرض تزخر بالغاز والبترول و الخيرات، دون أن يسمع به أو عنه أحد. لكن وجوده في الغرب سمح بمعرفته و بجهوده و إنجازاته ونتائجه الواعدة، لأن ميدان التسابق على الفرص في العرب مفتوح لجميع الكفاءات مهما كانت مشاربها و أصولها “!!

واليوم أعود لأميط اللثام عن هجرة العقول الجزائرية للخارج و ليس عن هجرة العضلات، نظرا لما يتعرض له هذه السنوات ليس فقط سلك التعليم من تدجين وتجهيل ومحاصرة، بل ما يعانيه الأطباء بعد سلسلة الاحتجاجات والإضرابات التي قاموا بها في السنوات الأخيرة قصد تحسين أوضاعهم التعيسة، مما جعل بعضهم يخبرني بأسف شديد بقوله “سيضطر بعضهم للـ”الحرقة في قوارب الموت” دون تردد ومهما كان الثمن في رحلة “سفينة المجهول”، قصد الهجرة للغرب ذهابا بغير رجعة، غير عابئين بالمخاطر، وقد تبتلعهم لا قدر الله، حيتان البحر أو تفترسهم وحوش البر، كما هو الحال بالنسبة لمن سبقهم من مهاجري إفريقيا ودول الصراعات الداخلية في المشرق، وقليل من ينجو منهم ويفرض نفسه في ديار الغرب، لان غرب اليوم غير غرب البارحة، مع تنوع أمواج و سيول المهاجرين، وعاء أوروبا لا يتحمل كل “اوساخ الدنيا”، كما قالها بعض الساسة!!

ومن باب مكرها أخاك لا بطل، حزم العديد من أطباء الجزائر على مضض حقائبهم منذ أشهر، لتستقبلهم المستشفيات الفرنسية بصدر رحب، مما أثار حفيظة المجلس الوطني لعمادة الأطباء الجزائريين ، فباغتتهم بتعليمات تمنع جميع المؤسسات الاستشفائية من إصدار شهادة العمل وشهادة حسن السيرة وتعليقها إلى غاية إصدار تعليمات أخرى، من دون تحديد أسباب ذلك أو مدة التعليق؟! وتزامنت هذه التعليمات مع التسهيلات الجديدة التي أعلنتها فرنسا للأطباء الجزائريين ومعادلة شهاداتهم للعمل في الخارج، بالإضافة إلى إضراب الأطباء المقيمين في العاصمة خصوصا.

وحسب تصريحات بعض الأطباء لوسائل إعلام غربية، فإن هذه التعليمات يمكن ربطها بالتسهيلات الأخيرة التي منحتها فرنسا للطبيب الجزائري والتي تفيد بمعادلة شهادته وبالتالي السماح له بمزاولة مهنته في فرنسا في ظروف أحسن وهو حلم أغلبية الأطباء في الجزائر، وخاصة الأطباء المقيمين الذين يواصلون حركتهم الاحتجاجية منذ شهرين ويرفضون التوقّف عن الإضراب رغم إصدار حكم قضائي بعدم شرعيته.

هذا وأفادت إحصائيات جزائرية بأن عدد الأطباء الجزائريين يشكل أكثر من 25 بالمائة من الأطباء العاملين في فرنسا أي ما يقارب 15 ألف طبيب، بعد تأهل أزيد من 90 طبيبا في المسابقة السنوية التي فتحتها فرنسا مؤخرا، لفائدة خريجي الطبّ العام والصيدلة وجراحة الأسنان لمختلف دول العالم خارج الاتحاد الأوروبي، وكانت المراتب الأولى فيها من نصيب الأطباء الجزائريين مقارنة بنظرائهم في المغرب وتونس، وهي المرتبة التي حافظ عليها الأطباء الجزائريون طيلة سبع سنوات الأخيرة

كما تجدر الإشارة إلى أن الأطباء المضربين أعربوا عن استيائهم الواسع من هذه التعليمات الأخيرة لمجلس عمادة الأطباء، معتبرين ذلك تعد صارخ على الحريات الشخصية التي يكفلها القانون المحلي والدولي، معتبرين أنفسهم رهائن ومحتجزين في سجن كبير اسمه ” التراب الوطني”، على حد تعبير أحد الأطباء، الذي وظف أخيرا في أحد المستشفيات الفرنسية بضواحي باريس، وكان يشتغل جراحا متفوقا في مصلحة جراحة القلب التي يشرف عليها البروفيسور سليم بن خدة (ابن الرئيس الأسبق بن يوسف بن خدة)، بمستشفى مصطفى باشا الجامعي بالعاصمة، إلا أنه فضل الخروج للخارج، لتوفر التسهيلات الماديات و التقنيات التي تمكنه من كسب خبرات جديدة، حسب زعمه.

و سيرا في موجة الرفض ومطالبة بالحقوق، أعلن المجلس الوطني لنقابة شبه الطبي من جهته، في بيان السبت الماضي، عن قراره مواصلة إضراب إطارات القطاع على المستوى الوطني، وذلك اعتبارا من بداية من الخامس من شهر فيفري 2018

أمام هذه الهجرة المروعة للسلك الطبي في بلادنا و التي يراها بعضهم شرعية أمام عجرفة الوزارة الوصية و سوء تقدير” السيستام” الحاكم بصفة عامة لجهودهم، ويراه بعضهم الآخر، الحل النهائي، من باب “آخر الدواء الكي” لا رجعة بعد ذلك .. لا يجب أن ننسى أن هناك تجارب مشابهة لدول العالم الثالث وقفت ضد التيار، رغم الداء المستفحل، لم تؤثر هذه الخرجات على عامة الأطباء و الممرضين الذين فضلوا البقاء في الميدان رغم عسرة هضم آلام الامتحان المادي عموما و الاعتباري خاصة، كالسلك الطبي في كوبا الذي حاصرته أمريكا من كل جانب، فبقي شامخا رغم الحصار و الدمار، نفس الشيء قد يقال، عن ما جرى للمنظومة الطبية في المشرق في سوريا و العراق و غيرهما..

رغم ذلك أقول، أن “فرنسا” المستكبرة و بتسهيلاتها الماكرة لا يجب أن تكون قبلة عقولنا المهاجرة، لأنها ستغدر بهم مثل ما غدرت بغيرهم طوال الدهر الغابر طال الاجل أو قصر، مثل ما أشرنا لذلك في بداية مقالنا حول محاولة الغدر التي تعرض لها البروفيسور محمد رضا سويلاماس.. أو كما غدرت بعقول سابقة ولاحقة عربية و إسلامية، إنها سياسة مدرسة “لويس ماسينون” الاستعمارية ، التي غدرت بعقول كثر، و ما المكر الذي أصاب حتى بعض المفكرين عن المبصرين ببعيد، أمثال ما وقع في فرنسا للمفكر حمودة بن الساعي و زميله مالك بن نبي في القرن الماضي.. و المكر مستمر من المستكبر و أذنابه على أصحاب الايادي المتوضئة اليوم و كل يوم !! وفي المدة الأخيرة غدرت فرنسا و لازالت تغدر بمجموعات كبيرة من أصحاب المبادئ و الثوابت الوطنية، أمثال المؤامرة التي يتعرض لها اليوم العبقري الجزائري، الخبير أحمد إدريس، المختص في الفيزياء وفضيحة تواطؤ الجامعة الفرنسية والقضاء الفرنسي ضده، للإجهاز على حلم عبقري جزائري واعد، و هو الفيزيائي الأول على مستوى دفعته في نهاية التسعينيات في جامعة قسنطينة!!

لإماطة اللثام عن معاناته سنخصص له مقالا مفصلا ، بحول الله، ليعي الشباب و المهاجرين الجدد لمعنى الهجرة في بلاد الغرب، ما لها و ما عليها.. فالهجرة قد تكون سياحة لكنها عموما نزيف قاتل لمنظومتنا الوطنية يجب على أهل الحل و العقد في أعلى هرم السلطة، أن يتفطنوا لويلاتها قبل فوات الأوان، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *