منتدى العمق

“مذكرات امرأة تعيسة”

قالت لحضرة القاضي وهي تقف وسط القاعة الواسعة المليئة بالحضور: كل شيء بدأ يوم طلبت منه الموافقة على أن أعمل؛ لأنني أردت مساعدته، فمرتبه الزهيد ينتهي بعد أسبوع من استلامه، والديون أهلكت كاهلنا..

هل تعلم ماذا كانت ردة فعله عندما سمع طلبي؟ لقد أصبح كالثور الهائج، وتلبسته هيئة عظمة لا أدري من أين نزلت عليه، واقترب مني كأنه يملك الأرض ومن عليها، وصفعني صفعة حملها كل ما امتلكت يداه من قوة وجهد، لدرجة أني شعرت أن صاعقة قد نزلت على خدي، وهذا لأنني.. ولأنني فقط طلبت حقا من حقوقي.. حق العمل، وهذا أقل حق يمكن أن يمنحني إياه.

ثم إن عملي لن يضره في شيء، بل على العكس سينفعنا نحن الإثنين.

سكتت لبرهة ووقفت بضع ثوان طالت كأنها الأبدية، وقد اكتسى وجهها بالحزن والأسى، وسرحت بخيالها عبر عصور التاريخ، لتعود بها ذاكرتها للأيام الخوالي..

تابعت تقول وعلامات الألم بادية على محياها: لقد حكت معه أجمل الأحلام، اتضح لي بعد فوات الأوان أنها مجرد أوهام، ونسجت معه خيوط سعادة لم تدم إلا لحظات..

تصور حضرة القاضي، أنني كلما أعدت له الطلب أعاد ضربي..

لقد حاولت جاهدة إفهامه أنه لا فرق بين المرأة والرجل، وأن المساواة بينهما قد أعلنت منذ قرون خلت، لكن دون جدوى..

فهو يعيش في نسيج عنكبوتي من التقاليد السخيفة…

تقاليد تفيد أن المرأة هي للزوج وللأولاد والبيت..

لقد حاولت إفهامه بشتى الطرق أن للمرأة نفس الحقوق التي يتمتع بها الرجل، لكن وكأنني أسكب الماء في الصحراء.

ثم بعدها يا حضرة القاضي لم أعد قادرة على إعادة الطلب خوفا من بطشه وجبروته…

بعدها تغير كليا يا حضرة القاضي، وبذلك تغير مجرى حياتي، فلم أعد أراه إلا نادر النادر عندما يعود بعد أن يسدل الليل ستاره، وقد ترك صوابه في قاع قارورة خمر بإحدى الحانات التي تعود ارتيادها، وأول ما يفعله عند دخوله إلى البيت هو أن يفني وقتا طويلا في سبي وتحقيري ورميي بأبشع أنواع الكلمات، حتى أن الحياة قد فقدت معناها في نظري..

وهكذا بدأ يسلبني حقوقي حقا تلو الآخر حتى هضمها كلها، ولم يترك لي إلا الآلام والتعاسة والمعاناة، فأصبحت كالريشة التي ضلت الطريق، لقد جردني من هويتي، وحرمني راحة البال، وحينها أدركت أنه ليس ذلك الشخص الذي أحببت، بل أدركت أنه ليس بشر… إنه خطر… خطر تستفحل وانتشر..

ففقدت آخر بصيص أمل في السعادة..

سكتت للحظة متمنية أن يفعل الزمن فعله، فيطفى نار الذكريات المتأججة داخلها، لكنها كانت تدرك أنها تدافع عن أوهام بدافع من أوهام..
قررت أن تغلق باب الذكريات وتكمل حديثها، وهكذا بدأت الكلمات تتدفق من بين شفتيها في انسيابية وتلقائية، ومع انسياب الكلمات من شفتيها، انسابت العبرات من مقلتيها، ليتحول جو المحكمة إلى صقيع مفزع..

واصلت تقول بصوت اعتصره الألم: لقد أدركت يا سيادة القاضي أنه ليس هناك من مناص، أدركت أنه لم يبقى أمامي حل سوى مقاتلة شبح اسمه سوء الحظ… هذا الحظ الذي حكم على قلبي أن يدبح في معبد الأحزان، ويقدم قربانا للحب الآفل… هذا الحظ الذي حكم علي بإجهاض أحلامي،، لكي أعيش أرملة سعادة أبى عليها ظلم الحياة أن تتحقق.. هذا الحظ الذي حكم علي أن أعيش في مستنقع الجهل مع زوج جائر ظالم..

سكتت برهة لتستجمع شتات أفكارها، وهي تحس أن الظيم نازل بها لا محالة، وواصلت كلامها وهي تجفف الدموع المنهمرة من عينيها قائلة: صدقني حضرة القاضي، أنا ما كنت سأتجه إليكم طالبة حمايتكم لولا إصرار أختي الغالية، أختي التي لم أقابلها منذ ثلاث سنوات إلا على صفحات الرسائل.. تلك الأخت التي حرمني زوجي من رؤيتها؛ لقد أغلق في وجهي كل منافذ الحياة..

لقد أصرت علي أختي في إحدى رسائلها أن أستنجد بمحكمتكم الموقرة لإعتاقي من براثن ذلك الوحش البشري، لأنها تحقد عليه حقدا لم يترك في جوفها زيادة لمستزيد..

تحقد عليه لأنه حرمها مني وحرمني منها…

هل تعلم حضرة القاضي؟! حتى الرسائل كنا نتبادلها خفية، خوفا من أن يلحق بي الضرر إن رآني أفض رسائلها، أو أكتب لها رسائلي..

تنهدت تنهيدة من أعماق آلامها وتابعت: حتى الرسائل كنت أقرأها وعيناي تتابعان سطورها… لكن الكلمات كانت تفقد معناها، أجل لا تستغربوا، فقد كانت الكلمات تفقد معناها لأنني دوما أكون خائفة من أن يداهمني وأنا أقرأها فيمزقها ويمزقني..

تساجمت الدموع من عينيها وهي تسترجع شريط الماضي الأليم..

تابعت بصوت مكسور: لم أتمكن يوما من الاحتفاظ برسائل أختي خوفا من أن يفتك بي إن وجدها، لقد كنت أحرق كل رسالة أقرأها، لكي لا يراها ويراقب صندوق البريد، ويغلق بذلك كتاب أخوة لم تدم إلا سنوات..

وأنا الآن واقفة بين يدي حضرتكم، أستصرخ بعدالتكم، وأطلب منكم إنزال أشد العقوبة بهذا الزوج الظالم، وأطلب أن تسترجعوا حقوقي وحقوق كل نساء بلدنا،، لأننا للأسف في مجتمع هضمت فيه حقوق المرأة كليا… مجتمع يعتبر المرأة مجرد خادمة في البيت، تطبخ وتكنس وتربي..

مجتمع نسى وتناسى فضلها… مجتمع أنكر وتنكر لقيمتها ودورها فيه..

نهاية أريد أن أذكر كل رجل غافل عن قيمة المرأة بأنها هي من تلد نصف المجتمع وتربي النصف الآخر،، وأن وراء كل رجل عظيم امرأة أعظم.

ولمحكمتكم الموقرة واسع النظر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *