منتدى العمق

جودة التعليم مبتدأ التنمية وخبرها !

أضحى  التعليم مكونا محوريا في النسق التنموي العام لكل التجارب المجتمعية الراقية ، بل يمكن القول إن الصراع على القمة حضاريا بين الدول المتقدمة اتخذ  الميدان التعليمي منطلقا للتنافس و الصراع الوجودي ” الناعم ” ، عبر اجتهاد متواصل في البحث عن آخر المستجدات المعرفية والبيداغوجية ، و إنشاء بنية تحتية مدرسية عالية الجودة ، وتخطيط استراتيجي تشاركي فعال يروم تحقيق انطلاقة تاريخية في هكذا مجال يتميز بخطورة بالغة ، و تدخل كل الأطراف المعنية ببناء عالم الغد ؛ من رجال السياسة و الخبراء التربويين و الهيئة التعليمية و الجمعيات الأهلية بكل ألوان الطيف .. و إذا اقتصرنا على تأمل التجربة التعليمية المغربية سنلاحظ دون عناء كبير أنها مطوقة بضروب من الاختلال و ألوان من الشطط و أنواع من التسيب .. مما يجعل البلاد تقبع في الرتبة المتدنية و المخجلة ضمن سلم التنمية البشرية العربية و الدولية ! غير أن الأخطر من ذلك أن الوعي بأزمة التعليم المغربي ليس وليد اليوم ، بل إنه يعود إلى السنوات الأولى من الاستقلال . يقول المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري في هذا السياق : ” ثمة ، إذن ، في المغرب الراهن ، مشكل مزمن ، مشكل يحتل الصدارة ضمن مجموعة المشاكل الأخرى التي لم تعرف بعد طريقها نحو المعالجة الجدية ، و الحل الصحيح .. إنه بلا نزاع ، مشكل التعليم ” .

وهذه الفقرة مقتطفة من كتاب “أضواء على مشكل التعليم بالمغرب” ، الذي يعود إلى سنة 1973 ! مما يعني من جملة ما يعني أن هناك إجماعا وطنيا لا لبس فيه على تهافت المنجز المدرسي منذ أكثر من أربعين سنة دون أن تبذل جهود و إصلاحات وطنية “ثورية” عميقة و ذات دلالة مركزية لتجاوز هذه الأزمة العصيبة ، مع العلم أن هناك اعتمادات مالية هائلة ترصد “له” .

2 –   و لعل المعارك غير المجدية التي تشهدها الساحة التعليمية ببلادنا اليوم ، من قبيل القانون الإطار و مسألة لغات تدريس العلوم و توظيف المدرسين بنظام التعاقد .. من شأنها أن تساهم في تعميق الأزمة التعليمية ، و تدفع بمدرستنا العمومية و الخاصة إلى المجهول – المعلوم !  إن القضايا المصيرية لأي مجتمع من قبيل الوحدة الترابية و النموذج التنموي الراجح و الاختيار الديمقراطي و المسألة التعليمية تحتاج إلى أفق نوعي من التعاطي العلمي المجرد من الذاتية غير محسوبة العواقب ، و التسلح بقدر بالغ من النضج المعرفي المنفتح على تجارب الدول الرائدة في المسعى التنموي  بعموم المعنى ، و التبصر السياسي المؤمن بالمنجز الديمقراطي الرحب . لقد أثبتت التجارب العالمية الراهنة أن نجاح أي مجتمع و انتقاله إلى مصاف الدول الراقية إنما تحقق عبر التفوق في المسار التعليمي قبل أي شيء آخر ، و لعل الدول الإسكندنافية  و ما أضحى يعرف بالنمور الأسيوية و البرتغال مؤخرا دليل ساطع على الترابط الوثيق بين النهضة التنموية الشاملة و النموذج التربوي الأمثل.

3 –  و لقد خصصت الأدبيات الرسمية المغربية ممثلة في البرامج الحكومية و الندوات العلمية و توصيات لقاءات المؤسسات الحكومية و الخاصة .. هامشا معتبرا لموضوع التعليم ، بل إن العاهل المغربي توقف في مناسبات عديدة ، أمام المسألة التعليمية من منظور أكثر شمولية ، مبرزا أن التغيير التربوي المنشود لا ينحصر في مجر تغيير البرامج و إضافة مواد معينة أو حذفها ، بقدر ما أننا مطالبون ب “التغيير الذي يمس نسق التكوين و أهدافه .. مع ضرورة النهوض بالمدرسة العمومية إلى جانب تأهيل التعليم الخاص في إطار من التفاعل و التكامل ” . نعم التفاعل و التكامل هما الطريق الأمثل نحو الإقلاع التعليمي الجاد ، بنزعة تنافسية حضارية بعيدا عن المعارك الوهمية و الصراعات غير المجدية ، لأننا في النهاية نسعى بإخلاص إلى إيجاد حلول و اقتراحات كفيلة بإحداث طفرة تنموية حقيقية ، و لن يتأتى ذلك إلا عبر خلخلة ثورية إيجابية ؛ تضع حدا للتعاطي العفوي و الساذج مع المسلكيات التربوية المتقادمة و التجاذبات السياسوية الضيقة ، فالتعليم أكبر بكثير من ميولات أديولوجية حدية فقدت مدة صلاحيتها .

و ليس هناك أفضل من المجلس الأعلى للتربية و التكوين الذي أصبح هيئة دستورية قائمة البناء ، للمساهمة الفعالة في إنجاح الإصلاح التعليمي الذي تنتظره الأمة المغربية قاطبة . إن للمجلس كل الإمكانات لإحداث ثورة تربوية هادئة بدون ضجيج أو صراخ ، من خلال استغلال ذكي و فعال للانفجار المعرفي الذي يشهده العالم و الابتكار التكنولوجي عال الجودة ، و انتقاء أجود الطرق و النظريات و المناهج و الوسائل البيداغوجية القابلة للتنفيذ ، و المطابقة للواقع المغربي ، و تكوين علمي و محكم و مستمر للمدرسين ، من أجل تنمية القدرات الإبداعية و الفكر النقدي الحصيف عند أبنائنا ، فزمن استرجاع المعلومات و حشر العقول ولى من غير رجعة ، كل ذلك مع الحفاظ على المال العام ، و عدم هدره في ما لا ينفع البلاد و العباد . إن التقدم الاقتصادي و الحضاري الذي ننشده لبلدنا ، و خلق استثمارات و مناصب و فرص الشغل لأبنائنا ، رهين بنهوض تعليمي صادق و مسؤول .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *