وجهة نظر

أصدقاء الإمام

سبق لي وأن قرأت عن الإمامة وأحكامها، وما ورد فيها من أحاديث تبين دورها وأهميتها في الأمة، ولكن لم يسبق لي أن سمعت عن شيء اسمه “أصدقاء الإمام” فما معنى أصدقاء الإمام؟

إنه تعبير جديد، سمعته أول مرة من المفكر الإسلامي العلامة الدكتور مصطفى بن حمزة في مداخلة له بالمنتدى الأول للشباب هذه السنة، ويبدو أن المصطلح “أصدقاء” مصطلح يحمل نفحة من إبداع، ومن شأنه أن يحقق مقاصد كثيرة تعود بالنفع العميم على المساجد والمصلين على السواء، ويوفر للإمام أجواء تساعده في أداء وظيفته.

لقد كان الإمام، من قبل، معزولا عن محيطه، وغالبا ما كانت تقع حروب في المساجد، حيث كانت بعض العقليات المسطحة، التي تسيطر عليها المزاجية والعدوانية، متخصصة في إثارة النعرات، وتسميم الأجواء، والدخول في صراعات، حيث عملت على افتعال مشاكل تافهة كتشغيل مروحة، أو إضاءة مصباح، أو فتح نافذة، مما جعل الإمام ينزوي إلى الظل، فارا بجلده، وطالبا للأمن والسلامة، وبقي هكذا بعيدا عن الناس ومعاشرتهم.

وكانت مثل هذه العقليات حريصة كل الحرص على تتبع أفعال الإمام إذ راحت تحصي أنفاسه، وتراقب وقت دخوله وخروجه، وتضبط له العداد حتى تعرف الوقت الذي يقضيه في الصلاة من حيث الإطالة أو التقصير، لعلها تجد موضوعا تثير به فتنة لتقضي بها على السكينة والأمن التي هي من خصائص الأجواء التي يجب أن تتوفر في بيوت الله.

صليت يوما في مسجد صلاة العشاء، وشاءت الأقدار أن يصلي الإمام بآيات بها تتوسطها سجدة مما جعله يسجد أثناء القراءة، أي سجود التلاوة، وهي سنة مؤكدة على الأرجح، وبمجرد أن انتهينا من الصلاة وسلم الإمام التسليمة الأخيرة حتى انطلقت بعض الأصوات تلومه على فعل ذلك وتعاتبه، وتسأله إن كان قد تعمد الصلاة بهذه الآيات حتى يشق عليهم.

لقد عرفتْ العديد من المساجد صراعات أملتها إما قبلية مقيتة لكون القوم يريدون إماما من قبيلتهم، أو أخلاق متأصلة أشبه بالسادية في بعض المتقاعدين الذين سبق لهم وأن كانوا إداريين متسلطين قد ألفوا إعطاء الأوامر واستعمال الشطط والغلو في المعاملات، أو أملتها حسابات ضيقة وعناد فيما بين القوم، وأحيانا تكون كرد فعل تجاه سلوك ما صدر عن الإمام لم يرق للبعض فاتخذه مرمى فجند لها كل لاعب لا شغل له سوى الانخراط في إفساد بيوت الله.

إن فكرة “أصدقاء الإمام” في الحقيقة ليست فكرة سهلة التنزيل، رغم قيمتها وأهميتها والدور الإيجابي الذي ستلعبه، إن هي تحققت على أرض الواقع، وذلك لأن طبيعة الناس تختلف، وأن العود إذا شب ونما يصعب إصلاحه، أي من الأئمة من لا يستطيع أن يبتسم، مثلا، فهو بطبعه جدي إلى حد كبير، والبعض يرى نفسه غير اجتماعي تربية ونشوءا، وقد عرفنا العديد من الأئمة المتميزين بأخلاقهم وعلو كفاءتهم، ولكنهم إن جلسوا وسط القوم لا يستطيعون مشاركتهم حديثهم بله أن يبادروا إلى خلق أجواء حميمية ممتعة تقرب القلوب وتنسج الود.

ولكن، رغم ذلك، إن نحن عرضنا هذا الأمر على العلم، يمكن أن نجد حلا لمثل هؤلاء، لأن العقل البشري يشتغل بالعديد من القوانين ومن أول هذه القوانين هو الإيمان بالفكرة والاقتناع بمدى أهميتها، أي لا يمكن على الإطلاق أن يتحقق مشروع “أصدقاء الإمام” من طرف إمام لا يرى أهمية الفكرة، ولا يفهم أبعادها التي تخدم مشروعه الدعوي كإمام، وتوفر له أجواء صحية إيمانية روحانية ليمارس مهمته، بمعنى أن أول شيء على الإمام أن يفعله هو أن يحدث نفسه بالفكرة وأن يرددها كل حين حتى يستوعبها جيدا، أو يناقشها مع إمام آخر فيحاولان معا إحصاء المزايا التي ستترتب عن تحقيق الفكرة، فيقترحان خطوات عملية تدريجية يعملان على تكرارها، لأن الأفكار عندما يقتنع بها الإنسان تتحول إلى معتقد، وما المعتقد إلا جملة من الأفكار نشأت عند الإنسان إثر ظروف خاصة أو ضمن جدلية التأثير والتأثر، ثم تحولت إلى يقين ثم إلى حقيقة لا جدال فيها. والتكرار هو القانون الثاني الذي يشتغل به العقل، أي إن التكرار من شأنه أن يجعل السلوك مترسخا في العقل اللاواعي، كما أن للخطوة الأولى أهمية قصوى لكونها اللبنة التي سيتأسس عليها كل شيء، وعادة ما ينمحي السلوك الواحد أو السلوكان بسرعة كبيرة ما لم تتم إعادته حتى يترسخ في الذاكرة المتوسطة المدى ثم الذاكرة البعيدة.

كما أنه ليس مطلوبا من الإمام أن يحقق طفرة نوعية كبرى دفعة واحدة، فيصبح بين عشية وضحاها ذا أصدقاء كثر يجالسهم ويجالسونه، وإنما له الوقت الكافي ليغير سلوكه وطباعه، خصوصا إن وجد صعوبة في تحقيق هدفه، أي له أن يبدأ خطوة خطوة بشكل تدريجي، ووفق برنامج بعيد المدى، إلى أن ينتهي به المطاف إلى صديق المأمومين والمصلين وسكان الحي أجمعين.

إن هذه الفكرة الإبداعية، في حقيقتها، ستوفر للإمام أن يلعب دوره الريادي في الحي كاملا، فانطلاقا من معنى تسميته إماما إذ تعني من يقتدى به ويهتدى بفعله، وانطلاقا من المكانة التي بوأها له الشرع الإسلامي التي هي تصدر القوم وإمامتهم، وبتحقيق مشروع الصداقة سيتأتى له ذلك عن طريق هذا الاختلاط وهذه العلاقات، حيث سيتم التعرف عليه خارج المحراب وخارج المنبر، أي في الحالات الطبيعية والجلسات الحميمية التي توفر نقاشا خارج الرسميات، مما سيسمح للناس بمعرفته معرفة شخصية، فيتعرفون عن قرب على طبيعة اهتماماته وانشغالاته ومشروعه العلمي الشخصي. كما ستوفر له النقاش في قضايا أخرى تدل على حسن اطلاعه واتساع معرفته وطبيعة تفكيره، مما يجعل الناس تقدر فيه هذا وبالتالي تراه جديرا ليُحتَكم إليه ويُتَّخَذَ وسيطا في حل النزاعات.

إن من مبررات بيعة المسلمين لأبي بكر اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم له إماما في الصلاة، أي كيف لا يرضى الناس بالإمام حكما في دنياهم وهو إمامهم في أهم من ذلك وهي إمامتهم في دينهم. كما أن إمامته توفيق من الله تعالى له دون غيره إذ تعتبر توفيقا من الله مصداقا لقوله تعالى ( واجعلنا للمتقين إماما) أي هي مرتبة شرعية لا تكون إلا وفق الإرادة الإلاهية ومشيئة الله. أي إن الشرع الحنيف قد وفر للإمام انتخابا طبيعيا، ولكنه انتخاب غير كاف، في حالة إذا انزوى الإمام ونأى عن الناس وتحاشى مخالطتهم وكسب صداقتهم.

ويبقى أن نذكر من أهم السمات التي وجب أن يتحلى بها الإمام لتحقيق مشروع الصداقة، هي سمة الكرم، حيث إن القلوب قد جبلت على حب من أحسن إليها، وحتى يبتر كل معتقد فاسد يعتقده الناس في الأئمة بأنهم بخلاء، فلابد من إعطاء الدليل العملي لتكذيب ذلك, وحتى تزول من المجالس النكتة القائلة: “اللي يقول للإمام أرى يلزمه القضاء والكفارة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *