وجهة نظر

ممرض في حيص بيص (6)

المجتمع المدني بين الشّراكة والوصاية

طرق طارق بضع طرقات على النافذة، ثمّ مدّ يده مستعملا القوّة اللّازمة لفتحها والكلّ يعلم أنّ فتحها وإغلاقها يتمّ من الدّاخل وليس من خارج الحجرة، وأن تلك المحاولة ستفسد النّظام الآليّ الذي تشتغل به النّافذة، وقد تمكّن بالفعل من خلق كوّة أطلّ من خلالها مستطلعا ما يجري داخل قاعة العلاجات، ومع العلم أن الممرّض ما كان ليغلق النّافذة والباب كذلك إلّا حفاظا على خصوصيّة الشّخص الذي يتلقّى العلاج داخل القاعة.

إنّه أحد المدّعين الانتماء إلى المجتمع المدنيّ والذي أساء إلى العمل الجمعويّ النّبيل وأساء إلى سمعة الفاعلين الجمعويّين الشّرفاء، وذلك حين تلصّص أمام العيّان على إحدى المريضات التي كانت تتلقّى العلاج بحضور أمّها في الغرفة المخصّصة لذلك في أحد المراكز الصّحيّة، وقد سبق أن أقدم على نفس فعلته المشينة في الأسبوع السّابق تجاه أحد المرضى الذي كان يتلقّى حقنة بحضور زوجته في غرفة العلاجات في نفس المركز الصحّي وبنفس الطّريقة، وقد حاول في المناسبتين التلصّص على السرّ المهني الذي يؤطّره الفصل 18 من النّظام الأساسي العام للوظيفة العموميّة، حين ادّعى أنّ موضوع زيارته الغريبة كفاعل جمعويّ هو الحصول على معلومات كافيّة حول الخصاص الذي تعرفه بعض الأدويّة الخاصّة بالأمراض المزمنة، مع العلم أنّ إفشاء السرّ المهنيّ يعاقب عليه القانون الجنائيّ في الفصلين 446 و447 بالحبس و الغرامة.

هكذا جمع ذلك (المحترم) بين انتهاك خصوصيّات المرضى ومحاولة كشف السرّ المهنيّ، إضافة إلى عرقلة السّير العادي للمرفق العام وعرقلة الخدمة العموميّة، وإهانة موظّف التي يؤطّرها الفصل 19 من النّظام الأساسيّ العام للوظيفة العموميّة ويعاقب عليها القانون الجنائيّ بالحبس والغرامة في الفصول 263-264-265-266-267 ، وانتهاء بالشّروع في تخريب ملك عمومي يؤطّر عقوبته الفصل 959 من القانون الجنائيّ، دون الحديث عن التدخّل في السّير العاديّ للخدمة العموميّة بإملاء أوامر ما يجب فعله وما لا يجب فعله، وتحريض المرتفقين ضدّ العاملين بالمركز الصحّي بجمع التّوقيعات داخل فضاء المؤسّسة الصّحيّة، ويبدو أنّه لم يستسغ هذا الحديث حين سمع بعضه مباشرة من الممرّض، ولكن قد يكون استوعب خلاصته حين سمع مثله من طرف ممثّل السّلطة المحليّة التي أُشعرت بالأمر في حينه. ليس هذا إلّا مثلا حيّا يشخّص ظاهرة التدخّل المذموم، الذي يرقى إلى درجة الوصاية، لأطراف أخرى في التّسيير الاعتياديّ لمثل هذه المرافق الصحّيّة أو ربّما كذلك التدخّل في الخارطة الصّحيّة، منتخبين كانوا أو جمعويّين أو أشخاصا يعتبروا أنفسهم نافذين، مباشرة أو عن طريق الاستقواء بالسّاكنة أو استعمال طرق ضغط أخرى.

فما الدّاعي إلى أن يقع في كلّ هذه المخالفات، إلّا اعتقاده أنّ امتطاء صفة فاعل جمعويّ أو ناشط في المجتمع المدنيّ ستمكّنه من الخوض متحلّلا من القانون في بحر لجيّ منسوج بمساطر وقوانين لا يٌعذر أحد لجهله بها، ولا ينجده حين مخالفتها غير تنازل المتضرّرين عن حقّهم الشّخصيّ وتساهل الإدارة مع من أساء إلى هيبتها بنفس القدر الذي أساء به إلى الحقّ العام، وما كانت زيّارته الثّانيّة إصرارا منه على الحصول على معلومات خاصّة بسير العمل في المرفق العموميّ وقد أُخبِر خلال الزّيّارة الأولى أن عليه التّوفّر على إذن مسبق من المسؤول الإقليميّ وتحديد موعد مسبق للخوض في أيّ موضوع يخصّ السّير المعتاد للعمل، ما كانت زيّارته تلك إلّا عنوانا لعقيدة الوصاية التي اعتنقها ولبسها موضة كما لبسها أمثاله ناهلين جميعا من معجم خاصّ بهم أوحى إليهم أنّ الوصاية ترجمة أمينة لمعنى العمل الجمعوي، وما أضاف شيئا لما يعبّر عنه بعض المرتفقين الذين يريدون فرض نظام حياتهم الخاص شكلا ومضمونا على النّظام العام الذي يشتغل في إطاره المرفق العموميّ، ما أضاف غير جرأة (سنطيحة) في غير محلّها، مع العلم أنّ المشهد العام مليء بالأمثلة الحيّة عن الشّراكة الفاعلة والفعّالة بين جمعيّات المجتمع المدني والقطاع العام سواء في مجال الصّحّة أو التّعليم و التّكوين أو التّشغيل والاستثمار أو التّجهيز والتّمويل أو التّربية و الرّيّاضة وحقوق الإنسان ….

إذا كان المجتمع المدنيّ يعبّر عن نبض المواطن وهمّه كفرد في المجتمع، أو كعضو في فئة معيّنة توحّدها انتظارات وحاجيّات مُستشرَفة أو مُعبّر عنها، ويمثّل صلة وصل بين المواطن وبين القطاع العام، فإنّه يقوم كذلك بالمشاركة في تنفيذ بعض الخدمات نيّابة عن هذا الأخير بشراكة معه ومع أطراف أخرى، ولكن كيف سيتحقّق ذلك بمن يتنطّع في الأنشطة الجمعويّة وهو بالكاد يميّز بين الألف وعصا الرّاعي، وإن استطاع (فكّ الخطّ) لا يستطيع التّمييز بين المستشفى والمستوصف القروي، وبين مهمّة طبيبة تشخّص الدّاء وتصف الدّواء ومهمّة عطّار يبيع الأدويّة العشبيّة حسب الطّلب؟ ففاقد الشّيء لا يعطيه، وإن حاول من موقع (أبو العرّيف) فلن ينتج أحسن من ما سبق ذكره، أمّا من رأى في العمل الجمعويّ مدرسة ينهل منها أهلُها قبل غيرهم معرفة وتجربة واحتكاكا بجمعيّات أخرى ومرافق مختلفة، فلن يخيب مسعاه وسيفيد نفسه ومحيطه.

من الغثائيّة المشهودة إلى مشهد جمعويّ فعّال كشريك و ركن أساسيّ من أركان التّنميّة بكلّ أنواعها في المجتمع، أمام الوزارة الوصيّة والوزارات المعنيّة طريق طويل من التّرشيد والتّكوين والمواكبة والتّقييم الواجب عليها تجاه الجمعيّات والمتحرّكين في إطارها، وكلّ تأخير يُكسب الخلل مناعة ومقاومة لأيّ تغيير نحو الأحسن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *