رؤية باريس للخلاف المالي الجزائري

في ضوء التوترات التي تعيشها مالي، وتزامناً مع توقيف رئيس الوزراء المالي الأسبق شوغيل كوكالا مايغا وعدد من معاونيه في إطار تحقيقات حول إدارته السابقة، أعلنت السلطات الانتقالية فيها منذ أيام عن إحباط محاولة انقلاب جديدة واعتقال مجموعة من العسكريين بينهم ضابطان برتبة جنرال هما عباس ديمبلي ونما ساغارا، إضافة إلى مواطن فرنسي يدعى فيزيير يان متهم بالتجسس لصالح أجهزة الاستخبارات الفرنسية.
جاء ذلك في بيان للجنة العسكرية الحاكمة بثه التلفزيون الرسمي وصف المحاولة بأنها تستهدف “زعزعة استقرار البلاد” بمشاركة “مجموعة هامشية من قوات الأمن والجيش” وبدعم من “دول أجنبية” لم تسمها، في حين أفادت وكالة الأنباء الفرنسية بأن عدد الموقوفين تجاوز 55 شخصاً بينما حددت السلطات المالية 11 شخصاً كمشتبه بهم رئيسيين.
زادت هذه الأحداث من حدة التوتر بين باماكو وباريس التي تشهد علاقاتهما جموداً منذ أربع سنوات على خلفية خلافات سياسية وأمنية، كما تفاقمت الخلافات بين مالي والجزائر بعد إعلان باماكو في يناير 2024 إلغاء اتفاق السلام المبرم في الجزائر عام 2015 مع حركات الأزواد، مدعية تغير مواقف بعض الأطراف الموقعة.
وبلغ التوتر بين البلدين ذروته بتبادل استدعاء السفراء بعد اتهامات مالية للجزائر بـ”التدخل في الشؤون الداخلية”، التي نفتها الجزائر. فيما زاد من حدة الأزمة إسقاط الجيش الجزائري في فبراير 2024 لطائرة مسيرة تابعة للجيش المالي قرب مدينة تيمياوين الحدودية.
أسباب الأزمة
تتربع الحركة الوطنية لتحرير أزواد على رأس القائمة في الخلافات بين مالي والجزائر نظراً لاتهام الأخيرة بالدعم اللوجستي للحركة، خاصة في مجال التدريب والإيواء، فيما تمثل مناطق الطوارق في الجزائر ملاذاً آمناً لقادة الحركة عند الضرورة. كما اتُهمت الجزائر في الآونة الأخيرة بغض النظر عن النشاط الفرنسي على الحدود مع مالي، الذي وصل الى حد تمرير المسيرات الأوكرانية الى عناصر الحركة.
حيث استخدمت الطائرات المسيرة الأوكرانية في هجمات تستهدف المتمردين والمدنيين على حد سواء. ووفقاً لتقارير، زودت أوكرانيا الحركة الوطنية لتحرير أزواد بطائرات مسيرة، مما ساهم في تصعيد العنف بالمنطقة. وأدت هجمات بطائرات مسيرة في بلدة تين زاواتين الحدودية مع الجزائر إلى مقتل عشرات المدنيين، بينهم أطفال وعمال مناجم ذهب من النيجر وتشاد.
وتمثل الحركة نموذجاً للحركات الانفصالية في منطقة الساحل الإفريقي، حيث تجمع بين المطالب القومية للطوارق والصراع الجيوسياسي الأوسع في المنطقة. رغم فشلها حتى الآن في تحقيق الاستقلال الكامل، تمكنت الحركة من فرض نفسها كفاعل رئيسي في المعادلة السياسية والأمنية بشمال مالي.
وقد ساهمت عدة عوامل في ظهور الحركة الوطنية لتحرير أزواد بشكلها الحالي، أهمها عودة المقاتلين الطوارق من ليبيا بعد سقوط نظام القذافي عام 2011، حيث عاد الآلاف من المقاتلين الطوارق الذين كانوا يخدمون في الجيش الليبي حاملين معهم أسلحة ثقيلة. كما أن الدعم الفرنسي للحركة بحجة مواجهة الجماعات الإسلامية، جعلها تنمو وتشتد.
التأثير العكسي
تمثل الجزائر واحدة من أكثر الدول الأفريقية تأثيراً في القارة، حيث لعبت دوراً محورياً في حل النزاعات وبناء السلام منذ استقلالها عام 1962. بفضل دبلوماسيتها الفاعلة، أصبحت الجزائر “حجر الزاوية” في مجال الوساطة وتسوية الأزمات، معتمدة على مبادئ ثابتة مثل حق الشعوب في تقرير المصير وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وتعزيز الحوار الشامل.
رغم هذا الدور الفاعل، تواجه الجزائر انتقادات من جيرانها الذين يتهمونها بالتدخل في شؤونهم الداخلية، كما حدث في النيجر ومالي وليبيا. بعض المحللين يرون أن الجزائر تعاني في الآونة الأخيرة من “أزمة عقل استراتيجي” وضعتها في عزلة إقليمية.
كما أن العديد من مراكز التحليل الاستراتيجي تُشير الى أن التغير الحاصل في الدبلوماسية الجزائرية تجاه دول الجوار والاستخفاف بالنشاط الاستخباراتي للدول الغربية وعلى رأسها فرنسا في حدودها الجنوبية، والذي يدعم الحركات المتمردة وخصوصاً المتعلقة باقليم أزواد، يمكن أن يؤثر مستقبلاً على نظام الحكم في الجزائر نفسها وعلى حدودها، نظراً لوجود الطوارق في مناطقها الجنوبية، والذين يصل عددهم الى حوالي المليون.
فعلى سبيل المثال أدى الدور التركي في سوريا الى إسقاط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024 من خلال دعمها المكثف للمعارضة السورية المسلحة، الذي بدأ منذ عام 2011 وبلغ ذروته بعملية عسكرية خاطفة أطاحت بالنظام خلال أسبوعين فقط. حيث قدمت تركيا دعماً عسكرياً مباشراً شمل توفير الأسلحة والتدريب اللوجستي للفصائل المعارضة، خاصة “هيئة تحرير الشام” و”الجيش الوطني السوري”، مما مكنها من شن هجومها الناجح. كما وفرت تركيا دعماً سياسياً مهماً من خلال الاعتراف بالمعارضة كممثل شرعي للشعب السوري وتوفير منصات إعلامية لها.
وأدى إسقاط النظام إلى تحولات جيوسياسية كبيرة، وأصبحت تركيا القوة الإقليمية الأكثر نفوذاً في سوريا. ورغم تحقيق أنقرة لأهدافها الأساسية بإسقاط الأسد، إلا أنها تواجه الآن تحديات جديدة في التعامل مع الوضع السوري الجديد وإدارة تحالفاتها مع فصائل المعارضة المتنوعة. كما أن مشكلة الأكراد الذين يحاولون نيل استقلالهم والرافضين الإنضواء تحت جناح القيادة الجديدة في دمشق لا تزال تؤرقها، نظراً لوجود الأكراد بأعداد كبيرة أيضاً في تركيا.
ولعل تعاون فرنسا مع حركة تحرير أزواد يُتيح لها فرصة التصرف دون التنسيق مع الجزائر وتجاهلها كقوة إقليمية تاريخية. ومن خلال تدفق إمدادات الأسلحة المستمر عبر الجزائر من فرنسا وأوكرانيا ودول أوروبية أخرى، تخلق الجزائر لنفسها “قنبلة موقوتة” على أراضيها قد تنفجر في أي لحظة.
الدور المطلوب من الجزائر
في المحصلة، فإن مالي وبناءً على الخط السياسي الذي رسمته في إقصاء فرنسا والدور المعادي الذي تمثله والمهدد لإستقرار الدول الأفريقية، تمتلك عاملاً مشتركاً مع الجزائر التي فقدت أكثر من مليون شهيد في سبيل نيل إستقرارها عن الإستعمار الفرنسي. وفي ظل تدهور علاقات الجزائر مع مالي ودول الساحل، فإنها تحتاج إلى استعادة دورها كقائد إقليمي.
وبنظر الخبراء في الشأن الأفريقي فإن اتخاذ الجزائر لموقف صارم تجاه التدخل الفرنسي ودعمه للحركة الوطنية لتحرير أزواد، وسعيها لاستضافة مفاوضات السلام بين الحركة والسلطات في مالي من شأنه إصلاح العلاقة مع مالي، وسيكون له أثر إيجابي على العلاقات مع دول الساحل الأفريقي المجاورة. ناهيك عن تعزيز حضورها الاقتصادي خصوصاً وأنها نالت العضوية الكاملة في منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية في أواخر 2024، وهي كقوة اقتصادية تشكل عاملاً مهماً لتعزيز إقتصادات الدول المجاورة.
* كاتب وباحث في شؤون الشرق الأوسط والعلاقات الدولية
اترك تعليقاً