منوعات

كليات رمضانية.. كلية التحرر والتحرير (2): من محطات التحرر الرمضانية

(الإمساك ، إني صائم)

محطة الإمساك:

ومن مظاهر ذلك التحرر والتحرير أن كان الصوم العبادة الأولى في هذا الشهر الكريم، بل إنه سمي شهر الصوم، والصوم الإمساك عن شهوتي البطن والفرج، تينك الشهوتان اللتان لا انفكاك للإنسان عنهما، ولا مفر له منهما، إلا أنهما يستغلان غفلته وفراغه، ليسطوان عليه ويسيطران على فكره وعقله، فيصبحان مقصد حركته الأول ومنتهى علمه، ونهاية غايته، ومن أجلهما يبذل الغالي والنفيس ويضيع كريم عمره، لينال ما يشبعهما، فيصير هائما هنا وهناك لا يعرف حقا ولا ينكر باطلا ولا يقدم خيرا ولا يدفع شرا، ومن مد له شيئا من ذلك الإشباع صار له عبدا..

ومن وسط ذلك المستنقع، وخلال تلك الحيرة، ومن تحت أقدام الاستعباد، يأتي رمضان لينتشل الإنسان، فشرع فيه إمساكا المغزى منه تخفيف وطأة تلك الشهوة، وإعادتها إلى مرتبتها، وتحرير إرادته وقراره من ربقتها، وتحسيسه بإمكان العيش دون إستجابة مطلقة لكل رغباتها.

فإذا فهمنا هذا المغزى، وأدركنا هذا المقصد، امتلكنا إرادتنا، وعرفنا طريق حريتنا، وفقهنا سلم أولوياتنا، وكنا قوة عصية على كل استعباد أو استكبار كائنا ما كان، وأدرنا أزماتنا بحكمة وعقل، ووازنا بين مصالحنا الخاصة والعامة، وكنا نموذجا حيا للحرية المتألقة الحية…

ومن هنا نضع البذرة الأولى لذلك الإنسان الجديد الأبي الذي يومن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسول.

وهنا يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ليس لله حاجة في أن يدع الصائم طعامه وشرابه [1]، لأنه سبحانه الغني عن أي مصلحة يمكن أن ترجى من ذلك الإمساك أو من غيره، وإنما الحكمة والمصلحة كل المصلحة منه هي أن تتحرر وتمتلك إرادتك، وقوة عزمك.

تدع الطعام، حتى إذا فقدت يوما من الأيام طعاما من الأطعمة، لظرف من الظروف كالحرب، أو السجن، أو الحصار أو الرغبة في طأطأة الرأس، كنت قويا أبيا قد أخذت دورات سنوية لسنين عديدة في عدم التفريط في قيمة لأجل شهوة.

تدع طعامك وشرابك، لتنظر من حولك من الفقراء والمساكين والبطون الطاوية، التي من كمالياتها بعض ضروراتك، فتخرج من سجن حظك وسيطرة ملكيتك، فتعيش ما تعيشه تلك الفئة طيلة حياتها، فتشعر شعورهم، وتواسيهم في مأساتهم.

تدع طعامك وشرابك، لتكون حرا في اقتصادك، تزرع ما تأكل، وتصنع ما تستخدم، وتصنع ما تدافع به عن نفسك، فتحقق اكتفاءك وتمتلك حقك في الرفض والمشورة والاعتبار.

فالصيام عبادة مضادة لتيار المادية المسيطرة في الشرق والغرب، تعرف الأرض ولا تعرف السماء، تعرف الجسم ولا تعرف الروح، تعرف الدنيا ولا تعرف الآخرة …

ليكن للقوم ما أرادوا، ذلك مبلغهم من العلم!.. بيد أننا نحن المسلمين يجب أن نعرف ربنا، وأن نلزم صراطه، وأن نصوم له، وأن ندخر عنده!.. [2]

ومما يتعلمه الإنسان من ترك الطعام وهو يشم رائحته الزكية، ويرى أشكاله البهية، يتعلم سياسة الامتناع وقول (لا)، فهو يقولها لهواه ونفسه الألصق به، والأكثر تأثيرا عليه، مما يكسبه مرانا وقوة على أن يقول (لا) لما دون ذلك تأثيرا وارتباطا، مما قد يفسده أو يسبب في فساده، أو التفريط في قيمة من قيمه..

فممارسة الامتناع يمثل ذروة ممارسة الحرية الإنسانية، فكل امتناع يأتي طوعًا من الإنسان وتلبية لقناعة غير محكومة بإكراه هو شكل من أشكال الحرية الأسمى. [3]

وفي رمضان تحد كبير للعولمة الفكرية التي تبث أفكاراً غربية تروج لفكرة التمتع بالشهوات المادية والجسدية دون أية ضوابط أو تحمل للمسئولية ، مدّعين أن إطلاق العنان للشهوات يساعد على حصول الإنسان على حريته وسعادته ، في حين أن الصوم يثبت أن السعادة والحرية الحقيقيتين لا تكون بالتمتع بالشهوات بل في الترفع عنها ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال : ” ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطن ، بحسب ابن آدم لقيمات يُقمن صلبه ، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه ، و ثلث لشرابه ، وثلث لنَفَسه ” [4]

يقول روبرت رايت الباحث في جامعة بنسلفانيا ” من أنه لا تلازم بين مسار المال والرخاء المادي مع السعادة ،إذ تبين أن الدول الفقيرة أكثر سعادة من الدول الغنية التي تتمتع بكل أسباب الرفاه المادي. [5]

ومن مظاهر ذلك التحرر أن الصيام جنة قوية تحصنه ضد الأخطار التي ينجم أكثرها عن الانطلاق والاستسلام للغرائز والأهواء. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “الصوم جُنَّة” فهو وقاية لك وحماية من إغراءات الرجوع إلى دار الاستعباد. [6]

محطة (إني صائم)

ومن مظاهر ذلك التحرر والتحرير، تحرير الأخلاق والقيم من سيطرة المصالح، كما جاء في الحديث الصحيح (وإن سابك فقل إني صائم) [7]
يقول الصائم ذلك القول المأمور به للساب ليسمعه ، وليعلمه اعتصامه بالصوم ، فينكف عن سبه. ويحتمل أن يراد أنه يقول ذلك لنفسه تذكرا لها بذلك ، وزاجرا عن السباب . [8]

قال ابن عبد البر: قيل: يقوله بلسانه للمشاتم والمقاتل أي وصومي يمنعني من ذلك. [9]

إني صائم أو إني امرؤ صائم أشار بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الذي خوصم أو شتم أن تكون رده المفحم المتحرر من كل حظ للنفس، وميل للانتقام…

إني صائم، حتى تعلي من شأن قيمك وأخلاقك، أمام دوافع نفسك، وقبيح لفظك.

إني صائم، إشادة بالمثبت الأساسي على تلك القيم الذي هو الصيام، ففيه تحرر من كل انحطاط وتسفل، واستمرار لكل رقي وترفع.
إني صائم جاءت بإن التوكيدية، الدالة على الحزم والجزم والثبات على المبدأ والقيم، أمام كل المغريات والجارفات، والمزحزحات..

يقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: إن الصوم يقوّي الروحانية ويغذّي الفضائل ويشدّ العزائم، ويغري الفكر بالسداد والإصابة، ويربّي الإرادات على الحزم والتصميم. وإن حياتكم اليوم حرب لا تنتصر فيها إلا الأخلاق المتينة، فاجعلوا من رمضان ميدانًا زمنيًا للتدريب على المغالبة بالأخلاق تنتصروا على عدوّكم، فتخرجوا هيبته من قلوبكم، ووسوسته من صدوركم، وجيوشه من بلادكم.

إن عدوّكم يعتمد على متانة الأخلاق قبل اعتماده على الحديد والنار، فأعدّوا له أخلاقًا أمتن تفلوا حديده وتطفئوا ناره.

إن عبيد الشهوات لا يتحررون أبدًا، فلا تصدّقوا أن من تغلبه شهواته يستطيع أن يغلب عدوًا في موقف.

ابدأوا بتحرير أنفسكم من نفوسكم وشهواتها ورذائلها، فإذا انتصرتم في هذا الميدان فأنتم منتصرون في كل ميدان. [10]

فرمضان ليس مجرد استراحة محارب، ولا محطة للتزود فحسب، بل هو شهر كريم وفضيل، وجزء من عمر الإنسان المسلم، وينبغي أن لا يتوقف كثيرا عنده، بقدر ما هو يحتاج أن يحيله إلى طريق جديد يسلك فيه باتجاه قمة العبودية لله تعالى، والمجد الإنساني، والتجرد من آصار النفاق الاجتماعي، والتحرر من التزلف للسلاطين، وأهل الثراء، وأصحاب النفوذ، وحث الخطى سريعا لتحقيق معاني الربانية التي طالما نسعى لها على مدى عمرنا القصير على هذه الأرض. [11]

الصوم جنة صائم من مأثم *** ينهى عن الفحشاء والأوشاب
الصوم تصفيد الغرائز جملة *** وتحرر من ربقة برقاب

يتبع..

[1] إشارة لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» رواه البخاري (3/26/1903)
[2] من ثمرات الصيام 16أكتوبر, 2004 في العدد 221 / فقه العبادات الوسوم : الصيام / فضيلة الشيخ محمد الغزالي / من ثمرات الصيام الكاتب : المحجة
[3] شهر رمضان شهر الهدى والفرقان (ص:259)
[4] سنن ابن ماجه (4/448/3349)
[5] مقال /رمضان يتحدى العولمة : د. نهى قاطرجي http://www.saaid.net/daeyat/nohakatergi/22.htm / المفصل في شرح آية لا إكراه في الدين
[6] الحكمة من مشروعية الصيام / عطية صقر رئيس لجنة الفتوى بالأزهر الشريف سابقا
[7] عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ” الصيام جنة فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين ” رواه البخاري (3/24/1894)
[8] المفهم (3/215)
[9] شرح الزرقاني على الموطأ (2/293)
[10] آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (4/308)

[11] ملتقى أهل التفسير: https://vb.tafsir.net/tafsir2711/
كيف يقضي السياسي والمثقف رمضان؟ * سعيد ثابت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *