وجهة نظر

الوضع الاجتماعي بالمغرب.. اتسع الخرق على الراقع (الجزء 2)

إن مدارسة الوضع الاجتماعي بالمغرب تقتضي استحضار المتغيرات الدولية والإقليمية التي أضحت، أكثر من أي وقت مضى، حاسمة في رسم التوجهات المحلية، ومن خلالها إذن يتم تسليط الضوء على نجاعة السياسات المعتمدة من طرف الدولة في تدبير الشأن الاجتماعي. وبالمقابل لابد من الأخذ بعين الاعتبار درجة وعي المجتمع المغربي ومدى تأثر إرادته في التغيير بالوعي الحاصل.

نعرض في هذه الورقة البحثية لمجموعة من الدراسات المساعدة توضيحا لما ذهبنا إليه بغية استيعاب الواقع الدولي من أجل استجلاء بعض معالم الصورة المعبرة عن الحال واستبيان ما يتجلى من خيوط المآل.

1ـ المتغيرات الدولية

تُطوِّر الدول المتقدمة على الدوام المشاريع تلو المشاريع من أجل الحفاظ على تفوقها. وإذا أخذنا الولايات المتحدة الأمريكية بصفتها رائدة العالم الغربي الرأسمالي فإنها لجأت في تعاملها مع المجتمعات من أجل تطويعها، في الداخل كما في الخارج، إلى التأثير على “الثقافة الجماهيرية” بقصد التوجيه الفكري والثقافي الذي تمارسه وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة والمسموعة والوسائط الاجتماعية على الرأي العام. لكن السؤال المطروح في وقتنا الحاضر هو أين يكمن مركز القرار ولمصلحة من يُتَّخذ؟

3.1. الثقافة الجماهيرية والأوهام الخمسة

هذا الكتاب للأمريكي هربرت أ. شيللر (1973)، « The Mind Managers » أو كما تمت ترجمته بالمعنى، “المتلاعبون بالعقول”، الكتاب يثير العديد من الإشكاليات التي تطرحها الممارسة الإعلامية وخصوصا الإعلام الأمريكي الخاضع لسيطرة الاقتصاد الرأسمالي الذي، كما أشرنا سابقا، تتحكم فيه الشركات العملاقة.

شيللر تناول في هذا الكتاب عملية “تضليل العقول” من وجهة نطر تخصصه في الإعلام والاتصال وأثرها على السلوك الاجتماعي سواء داخل أو خارج المجتمع الأمريكي. التضليل الذي تسعى النخبة من خلاله ألى تطويع الجماهير لتساير أهدافها وتؤيد نظاما اجتماعيا لا يخدم في المدى البعيد المصالح الحقيقية للأغلبية. وحسب تحليل شيللر فإنه يعدد خمسة “أساطير” متوافق عليها من أجل تحقيق الأهداف التضليلية.

نفس هذه الأساطير تناولها محمد عابد الجابري في علاقتها بما يسميه “الاختراق الثقافي” العولمي للهوية الثقافية في الوطن العربي، وسماها بـ”الأوهام” الخمسة التي تقوم عليها ثقافة الاختراق. ونفضل هذا الاصطلاح ما دام التضليل الأعلامي يلجأ إلى فعل التوهيم الذي يراد به إيقاع عقول مستهلكيه في تصور غير حقيقي أي في وَهْم، كما تبين المعاجم اللغوية.

النتيجة النهائية لاستخدام الأوهام الخمسة، التي سنأتي على ذكرها لاحقا، تتمثل حسب شيللر في السلبية الفردية، أي حالة القصور الذاتي التي تعوق الفعل، وتعزز البقاء على الوضع القائم كما تشتهيه السوق الرأسمالية، بعيدا عن أي وعي نقدي، أو نشاط عقلي، أو فعل اجتماعي بل وحتى اهتمام بالحقائق الاجتماعية والاقتصادية.

نعرض هنا للأوهام الخمسة التي يعتبرها شيللر أسس الثقافة الإعلامية الجماهيرية في الولايات المتحدة الأمريكية والتي تعمل على إيقاع العقول فيها، وخصص لها الفصل الأول من كتابه. وهي نفسها – حسب الجابري – التي تعتمدها إيديولوجيا الاختراق العولمية للمجتمعات الأخرى.

الأول ـ الإيقاع في “وهم الفردية والاختيار الشخصي”

إن أعظم انتصار أحرزه التضليل الإعلامي في الولايات المتحدة، وهي حديثة العهد بالاستيطان، يتمثل في تكريسه لتعريف محدد للحرية تمت صياغته في عبارات تتسم بالنزعة الفردية. فيتوهم المرء أن حقيقة وجوده محصورة في فرديته، وأن كل ما عداه أجنبي عنه لا يعنيه. وبذلك، وباسم الحرية ترسخ النزعة الأنانية، وتطمس الروح الجماعية سواء كانت على صورة الوعي الطبقي أو الوعي القومي أو حتى الشعور الإنساني.

وطبعا فإن الحقوق الفردية المطلقة، كما يؤكد شيللر، مجرد وهم لأنه لا يمكن الفصل بين الفرد والمجتمع، فبداية الحضارة تمتد جذورها في التعاون والاتصال.

الثاني- الإيقاع في “وهم الحياد”

الهدف المتوخى من هذا الإيقاع هو أن يتوهم، أولئك الذين يجري تضليلهم، حياد المؤسسات الاجتماعية والرئيسية، فيعتقدوا أن الحكومة والإعلام والتعليم والعلم جميعها بعيدة عن معترك المصالح الاجتماعية المتناقضة، مع التأكيد على غياب الإيديولوجيا. وأن ينظروا إلى واقع الفساد والغش والاحتيال –عند حدوثها- على أنها مترتبة عن الضعف البشري.

ويرى الجابري أن الحياد يدفع بالفرد إلى التحلل من كل التزام أو ارتباط بأية قضية، ومن تم ذلك الشعار الذي عبر عنه بالدارجة المغربية “وانا مالي”.

الثالث- الإيقاع في “وهم الطبيعة البشرية التي لا تتغير”

النظريات المتعلقة بالسلوك البشري، والتي يتبناها الناس “تحدد ما الذي يتوقعه كل إنسان من الآخر.. إذ الاعتقاد يساعد على تشكيل الواقع الفعلي” (ليون هـ 6). فمن الممكن-يوضح شيللر- أن توجد ألوان مختلفة من التصورات في ذهن أي فرد حول الحقائق السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. على أن القاسم المشترك في كل تلك التصورات يبقى هو النظرة التي يتبناها الناس للطبيعة البشرية.. فهي التي تؤثر في النهاية في الطريقة التي يتصرفون بها، ليس لأنه يتعين عليهم أن يتصرفوا على هذا النحو، ولكن لأنهم يعتقدون أنه يُتوقع منهم أن يتصرفوا على هذا النحو.

فإذا كانت وسائل الإعلام الأمريكية تنشر على نطاق واسع النظرية التي تؤكد على الجانب العدواني في السلوك البشري وعدم قابلية الطبيعة البشرية للتغيير، فلأنها تضفي المشروعية على المبادئ الأساسية للاقتصاد الرأسمالي المعرض للصراعات الشخصية والاجتماعية التي تفرضها طبيعته. وبالتالي فتبني الناس لهذه النظرية سيُنظر إلى هذا الصراع على أنه كامن في الطبيعة البشرية وليس مفروضا نتيجة وضع اجتماعي يسببه اختلال المنظومة الاقتصادية نفسها.

ولهذا فإن الوقوع في هذا الوَهْم – يوضح الجابري- يؤدي إلى صرف النظر عن رؤية الفوارق بين الأغنياء والفقراء، بين البيض والسود، بين المستغِلين وبين من هم ضحايا الاستغلال، والقبول بهذه الفوارق كأنها أمورا طبيعية كالفوارق بين الليل والنهار والصيف والشتاء، وبالتالي شل روح المقاومة في الفرد والجماعة.

الرابع- الإيقاع في “وهم غياب الصراع الاجتماعي”

الصراع كما تصوره الأجهزة القومية لصنع الأفكار والتوجهات العامة، يوضح شيللر، هو في الأساس مسألة فردية، سواء في تجلياته أو في أصوله. فلا وجود للجذور الاجتماعية للصراع في رأيهم. وهذا التجاهل أو التحريف للواقع الاجتماعي هو نتيجة الخوف من تعميق وتكثيف مقاومة الظلم الاجتماعي، حيث إن الشركات والمجموعات ذات النفوذ الاقتصادي القوي تصاب بتوتر بالغ وفوري إذا ما تم لفت الأنظار إلى الممارسات الاستغلالية التي يشاركون فيها.

ومن هنا فإن عدة مفاهيم مثل: الوحدة، والتنظيم، والصراع يتم تصنيفها فورا “بوصفها أشياء خطرة. والواقع أن هذه المفاهيم هي بالفعل أشياء خطرة-بالنسبة للمضطهَدين- من حيث أن إدراك مدلولاتها يشكل ضرورة للنشاط التحرري” (هـ 11)

ومن هنا فهذا الوهم أتى صريحا في منطوقه ومفهومه، ويعد كتتويج للأوهام السابقة: الوقوع في وهْم غياب الصراع الاجتماعي معناه –بمنطق التعميم والتحيين في عصر عولمة الأوهام- الاستسلام للجهات المستغِلة، من شركات ووكالات وغيرها من أدوات العولمة. وبعبارة أخرى التطبيع“مع الهيمنة والاستسلام لعملية الاستتباع الحضاري.

الخامس- الإيقاع في ” وهم التعددية الإعلامية”

الشركات الإعلامية شركات تجارية بطبيعتها، وهي إما من إنشاء الشركات العملاقة وإما ترتبط بها بما تتلقاه منها من إعلانات تجارية. وبناء عليه فإن وسائل الإعلام الأمريكية تقدم رؤية واحدة للواقع نظرا لغياب المنافسة الحقيقية بحكم أن المادة الإعلامية والأفكار والتوجهات يجري انتقاؤها من الإطار المرجعي نفسه. وهذا يضرب في حرية الاختيار التي تعتبر من دعائم مجتمع الملكية الخاصة الاستهلاكي.

لذا جاءت فكرة إحداث فيض إعلامي متدفق يختلف فيه الأسلوب والتعبير المجازي والأشخاص المتحدثون وأوقات البرامج وغيرها، فيحدث الخلط بين الكم الهاجم وبين تنوع المضمون، لينوب الأول عن الثاني لدى الجمهور فيتعزز وَهْم حرية الاختيار بوَهْم التعددية الإعلامية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • غير معروف
    منذ 5 سنوات

    تحليل عميق. دام فكرك معطاء وقلمك بالحق صادحا