وجهة نظر

بين الليبرالية والاشتراكية

إن مشكلة الليبرالية التي عانى بسببها العالم في القرن العشرين، باعتبارها كانت تتعلق دائما بالليبرالية الاقتصادية المتوحشة والتي تعني التحرر الكامل للاقتصاد وهيمنة منطق السوق والربح على حساب العدالة الاجتماعية، وإيقاف دور الدولة في المجتمع وتحويل الخدمات الصحية والتعليمية إلى القطاع الخاص ونظام السوق، ما ترتب عن ذلك من أوضاع وأزمات اجتماعية كارثية، ولذلك نشأ في الكثير من الدول الأوربية وأمريكا اللاتينية في نهاية القرن الماضي الفكر الجديد الذي يجمع ما بين الليبرالية السياسية واليسار الاجتماعي، وهذا الفكر أطلق عليه ” الديمقراطية الاجتماعية أو السوسيو ديمقراطية “.

و تعد ألمانيا هي مهد الديمقراطية الاجتماعية، التي يعود أصلها إلى ستينات القرن التاسع عشر، مع ظهور أول تنظيم اشتراكي من هذا النوع في ألمانيا: “الرابطة العامة للعمال الألمان”، والتي كانت بقيادة فرديناند لاسال. وعلى الرغم من عدم كونه ماركسياً، كان لاسال متأثراً بنظريات ماركس وأنجلز، لكن سياسته كانت بشكل رئيسي إصلاحية ، تمزج بين جوهر الفكر الاشتراكى، وهى فكرة العدالة الاجتماعية، واقتصاد السوق، وتعنى بالأساس تحقيق العدالة الاجتماعية فى نظام يعمل وفق آليات السوق .

ذلك أن التجارب السياسية للدول أظهرت أن كل سياسة لا تحترم حاجات الإنسان الأساسية، و بالخصوص التربية والشغل والصحة والعدالة، محكوم عليها بالفشل. ومن هذا المنطلق، يمكن للديمقراطية الاجتماعية ضمان هذه الحقوق الأساسية للمواطنين. فبدون عدالة في الدخل والتعليم وفرص الحياة، ستكون الحرية مهددة من قبل الليبرالية المتوحشة، وبدون الحرية في الدفاع عن الحقوق، لن تجد العدالة صوتا يدافع عنها.

وتتجلى أيضا أهمية تطبيق الديمقراطية الاجتماعية في أنها تحترم مبادئ حقوق الإنسان والمواطنة والمساواة، ويتجلى ذلك في مضامين المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وعلى الخصوص العهد الدولي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لتقاطعه مع الفكر الديمقراطي الاجتماعي.

وتتجلى أيضا أهمية الديمقراطية الاجتماعية في أنها تعمل على حماية الضمان الاجتماعي للجميع على السواء، إذ أن هناك حدا أدنى للكرامة الاجتماعية، تسعى إلى الحفاظ عليها بالنسبة إلى جميع أفراد المجتمع.
فضلا عن ذلك، تحاول الديمقراطية الاجتماعية الحفاظ على التوازن بين حاجات الفرد، من جهة، وحاجات المجتمع، من جهة أخرى، وهى في محاولتها تلك تؤمن بقدرة الإنسان على تخطي مصالحه الضيقة من أجل أن يعيش في مجتمع أفضل تذوب فيه النزعة الفردية.

وكما تهتم الديمقراطية الاجتماعية بالحقوق الاجتماعية للفئات المهمشة والمحرومة، فإنها تهتم أيضا بالحقوق البيئية حتى تتمكن الأجيال المقبلة من التمتع بحقها في الحياة في عالم يخلو من التلوث، وكل ما يشكل عناصر البيئة التي تخص الجنس البشري ككل بأجياله الحاضرة والمستقبلية.

وتجدر الإشارة في هذا الصدد، إلى أن الديمقراطية الاجتماعية تعتمد على الإصلاح التدريجي للنظام الاقتصادي للدولة بإدخال مفاهيم العدالة الاجتماعية ودمجها مع الليبرالية السياسية المعتمدة على الحريات وحقوق الإنسان وتنظيم الحرية الاقتصادية والمبادرة الفردية بما لا يتعارض مع مصالح المجتمع، لأن المجتمعات التي أطلقت عنان الحرية الاقتصادية بدون ضوابط قانونية عرفت أزمات اجتماعية. فما يحدث الآن في عدد من دول العالم من اضطرابات اجتماعية وحركات احتجاجية، سببه هيمنة الليبرالية المتوحشة على السياسة الاقتصادية دون أن تترك مجالا للديمقراطية الاجتماعية: المساواة والعدالة الاجتماعية والتضامن الاجتماعي والحماية الاجتماعية.

يعتبر ترسيخ الديمقراطية، ودعم الحقوق والحريات من أساسيات مشروع المجتمع الديمقراطي والمتضامن الذي يتبناه جلالة الملك محمد السادس نصرة الله، حيث سجل المغرب تقدما كبيرا في هذا الشأن خلال السنوات الأخيرة.
فقد نص الدستور المغربي لعام 2011 على أن نظام الحكم في المغرب، نظام ملكية دستورية، ديمقراطية برلمانية واجتماعية، كما يقوم على الديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة.

كما أدرك المغرب الأهمية المركزية للعدالة الاجتماعية والمجالية في ترسيخ الديمقراطية ودولة القانون، فعمل على التنصيص عليها في الدستور حتى تكون هدفا ملزما للجميع وأفقا إلتقائيا للسياسات العمومية، إدراكا منه لضرورة إعطاء الديمقراطية مضمونها وبعدها الاجتماعيين والمجاليين، واستيعابا للأجيال الجديدة لحقوق الإنسان.

وفي هذا الإطار، نسجل بارتياح كبير الملامح الكبرى الأساسية التي وردت في خطاب جلالة الملك خلال افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان بتاريخ 13 أكتوبر 2017، والتي تتجسد في السعي إلى إقرار نموذج تنموي متوازن ومنصف قادر على ضمان العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية من خلال الحد من الفوارق الاجتماعية والتفاوتات المجالية.

تجدر الإشارة في هذا الصدد، أن المكتب السياسي لحزب التجمع الوطني للأحرار، صادق خلال اجتماع له بتاريخ 17 فبراير 2018 بمدينة الدار البيضاء، على مشروع أرضية وهوية الحزب، ومشروع العرض السياسي المتعلق بالنموذج التنموي الجديد للمغرب.
وقد كشف الحزب عن مشروعه السياسي الجديد والذي قدمه في شكل كتاب، يحمل عنوان ” مسار الثقة: في خدمة نموذج جديد للتنمية ” ، معلنا أنه يعد مساهمة في النقاش العمومي حول النموذج التنموي الجديد الذي دعا إليه جلالة الملك، حيث تضمن رؤية الحزب في العديد من المواضيع التي تهم المغاربة؛ بدءا من التشغيل، وصولا إلى الصحة ثم التعليم، بالإضافة إلى الإعلان عن خطوة جديدة لا سيما ستمكن الحزب من بلورة الحياة السياسية، وتعزيز وشائج التلاحم والتعاون بين كل مناضل ومناضلة، تجاه تطلعات المواطنين والمواطنات.

لقد تبنى الحزب مرجعية الديمقراطية الاجتماعية، واختيار المسار الوسطي البديل المؤثر والفاعل الذي يهتم بقضايا المواطنين، ويبدع في خلق حلول جذرية، والمستمدة من الواقع المجتمعي، وليس الوسط السلبي أو المحايد، بالإضافة إلى التفاعل مع التوجيهات الملكية التي دعت كل القوى الحية الى طرح النقاش حول النموذج التنموي الوطني الجديد.

كما اعتبر الحزب المساواة هي الضامن الوحيد للمغاربة للاستفادة من الفرص بشكل متساو، سواء انصب الأمر على التعليم أو الشغل أو العلاج، في الوقت الذي ينشر تيار العدمية الاحباط واليأس وسط الصفوف الشبابية والمواطنين ومختلف شرائح المجتمع، من أجل العدول عن الانخراط السياسي، وتمكنيهم من قول كلمتهم من داخل المؤسسة الحزبية كمؤسسة دستورية تضمن للجميع حرية الرأي والتعبير، وتتسع لطرح مختلف المعوقات الاجتماعية.

إن اختيارنا للديموقراطية الاجتماعية، يستلهم قيمها الأساسية الكونية القائمة على الحرية والعدالة والمساواة والتضامن، بما تعنيه على المستوى السياسي من انتصار لقواعد الديمقراطية التمثيلية والتشاركية، وعلى المستوى الاجتماعي والاقتصادي من خيارات تنحاز للتوزيع العادل للثروات وللسياسات ذات المضامين الاجتماعية، المرتكزة على الأدوار الحمائية للدولة، وعلى حقوق الإنسان بكل أجيالها و بالخصوص حقوق المرأة ، وعلى التنمية المجالية بأبعادها المختلفة. كما أن اختيارنا للديموقراطية يجد سنده في ديننا الحنيف ، مصداقا لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } ( سورة البقرة : الآية 143 ). و الديمقراطية الاجتماعية تشكل وسطا بين جوهر الفكر الاشتراكى، وهى فكرة العدالة الاجتماعية، واقتصاد السوق، وتعنى بالأساس تحقيق العدالة الاجتماعية فى نظام يعمل وفق آليات السوق .

لذلك، فحزب التجمع الوطني للأحرار يتبنى المبادئ الأساسية للديمقراطية الاجتماعية، ليكون في خدمة المواطنات والمواطنين، من أجل تقدم المغرب وازدهاره، وهو واع كل الوعي بالتحديات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والبيئية للعولمة والتطور التكنولوجي الهائل، ومدرك كل الإدراك لطبيعة وشكل التحولات الاجتماعية الجارية داخل المجتمع المغربي.
وقد اعتبرنا أن تنصيص الدستور المغربي على دور الدولة الحمائي لمجمل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، تمليه حاجة بلادنا إلى

دولة العدالة الاجتماعية، تقوم على إرساء نموذج اقتصادي يربط النماء الاقتصادي والاجتماعي بعنصر الحكامة ومبدأ الإنصاف في تدبير السياسات العمومية.

واعتبرنا أنه الخيار الأنسب لبلادنا وهي تبني نموذجها التنموي الطموح عبر إرساء دعائم اقتصاد تنموي، تنافسي ومنتج، لكننا جعلناه مشروطا بالمسؤولية الاجتماعية، بحيث لا يترك لآليات العرض والطلب وحدها الكلمة الفصل في المجال الاقتصادي دون تدخل الدولة عبر التخطيط والمراقبة والمساءلة وإعمال الحكامة الجيدة وتقوية دور الطبقة الوسطى في دمقرطة وتحديث المجتمع.

وذلك عبر التقليص من الفوارق، سواء منها الاقتصادية أو الاجتماعية أو المجالية أو الجنسية ومحاربة البطالة والهشاشة والفقر والتهميش والإقصاء، وإبداع آليات إدماج جميع المواطنات والمواطنين بمن فيهم ذوي الاحتياجات الخاصة، كل حسب مؤهلاته، في الحركية الاقتصادية والتنموية، وتفعيل حقيقي لمقتضيات الدستور فيما يخص الحق في السكن اللائق للجميع والقضاء على المضاربات العقارية مع اعتماد مقاربة جديدة في التعاطي مع ذوي الدخل المحدود.

وذلك من خلال العمل على إبداع نموذج اقتصادي جديد لجعل المغرب في مصاف “الاقتصاديات الصاعدة” وتحقيق نموذج تنموي جديد يمكن الوصول إلى أكبر نسبة من النمو للإنتاج الداخلي الإجمالي واستمرار تفعيل الإصلاحات المؤسساتية المهيكلة وتقوية جودة تنافسية المنتوجات المغربية والمقاولات والبحث عن أسواق جديدة، وتدبير التوازنات “الماكرو اقتصادية”.

إن حزب التجمع الوطني للأحرار يقارب المشاكل المعقدة لكل فئات المجتمع المغربي، وفق ما تمليه اختياراته الاجتماعية الديمقراطية، وهو يبحث عن حلول واقعية، مستمدة من قيم الديموقراطية، ومرتكزة على الانفتاح على النخب وممارسة سياسة القرب، والمساهمة من أجل توفير شروط وظروف تنمية شاملة ومستدامة، عبر دعم سياسات تنحو منحى محاربة كل عوامل الفقر والتهميش والإقصاء وعدم المساواة، والمشاركة في نهج مقاربة للتنمية قائمة على حقوق الإنسان والمواطنة، وعلى تلبية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية (العيش الكريم ـ الغذاء ـ السكن ـ الصحة ـ التعليم ـ العمل).

ولذلك، فإن البعد الاجتماعي يحتل مركز القلب من الاهتمام في المشروع السياسي لحزب التجمع الوطني للأحرار، لأنه يحمل هاجس صون كرامة المواطِنات والمواطِنين عبر تحسين أوضاعهم المادية والمعنوية، وانطلاقا من كون تجسيد مبدأ العدالة الاجتماعية يتأسس على التوزيع العادل والمنصف للثروة.

كما أن الحقوق الاجتماعية من منظور حزبنا مسألة ضرورية لاعتبار الإنسان غاية في ذاته، ولوجوب احترامه ومساعدته على العيش الكريم ، لأن هدف التنمية في بلادنا هو حرية المواطن ورفاهيته. والديمقراطية الاجتماعية تسهل مشاركة المواطِنات والمواطِنين في العمل السياسي وتحرير قدراتهم الذاتية وضمان مشاركتهم في بناء الوطن، لأنها تسد حاجاتهم المادية وتعيد لهم اعتبارهم وكرامتهم. وبهذا يصبح للديمقراطية ببعديها السياسي والاجتماعي معنى واقعيا ومتكاملا.

تتمثل الغاية الأسمى للنموذج التنموي الجديد، الذي رسم معالمه جلالة الملك، في إيجاد الإطار الملائم للاستجابة العملية للتطلعات المشروعة للمواطنين في مجالات التنمية والتعليم والصحة والشغل وغيرها من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية التي أقرها الدستور، والحد من الفوارق المجالية التي تشكل عائقا أمام تحقيق هذه المقاصد.

وهذا بطبيعة الحال ينسجم مع أسس و مبادئ الديموقراطية الاجتماعية التي اختارها حزبنا في مشروعه السياسي، كبديل لإيجاد الحلول الجذرية في المجال الاقتصادي و الاجتماعي والمستمدة من واقع المجتمع المغربي، وكمرجعية للحزب بهدف تعزيز قيم العدالة الاجتماعية و المساواة والمسؤولية والتضامن الاجتماعي.

قبل أن أختم، يسعدني أن أجدد شكري للجهة المنظمة للندوة عن الدعوة للمساهمة في أشغالها، متمنيا أن تكلل أشغالها بالنجاح والتوفيق، وأن تخرج بتوصيات تسهم في تأسيس دعائم الديموقراطية الاجتماعية ببلادنا، خدمة للصالح العام تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله و أيده، و السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *