وجهة نظر

أحداث العيون الاخيرة.. لا توجد منزلة وسطى بين الوطنية والخيانة

عقب تتويج منتخب الجزائر لكرة القدم بكأس الأمم الإفريقية، عمت فرحة صادقة قلوب أبناء بلدي في كل مدن المملكة، بما فيها مدن الصحراء المغربية. لكن، بموازاة ذلك الفرح التلقائي، أبى البعض إلا أن يفسد البهجة ويشوش على المزاج الشعبي العام، ويزرع البلبلة مع سبق إصرار وترصد.

أتحدث هنا عما عرفته مدينة العيون، بعد مباراة النهاية، من قيام مجموعة من الأشخاص بإشاعة الفوضى، وتخريب الممتلكات، والاعتداء على قوات حفظ الأمن. وقد تم توثيق كل التفاصيل بصور حية بالفيديو تم التقاطها وتناقلها من عين المكان.

بدون تردد، ما حدث مدان ومرفوض جملة وتفصيلا. والإدانة تصير أشد حين نستحضر أن ما حصل كان بتوجيه من “خلايا انفصالية” استغلت جو الحرية من أجل التحريض وزرع الفتنة، بينما كان المفروض أن تكون مثل تلك السلوكات قد انقرضت من واقعنا، اعتبارا لما يتحقق كل يوم على الأرض من عمل دؤوب لتعزيز الديمقراطية، وحماية حقوق الإنسان، وتقوية مشاركة المواطنين في تتبع تدبير الشأن العام، وإبداء الرأي، والمساهمة في تحقيق التنمية.

لا شك أن أحداث البلبة تلك، تؤكد أن “جبهة الانفصال”، التي تجر وراءها الخزي والعار، قد أصابها السعار وسكنها الخوف مما يحدث من تحول لدى الرأي العام الشعبي الجزائري، الذي يتقدم على مسار البناء الديمقراطي وتحقيق الأمل الوحدوي المغاربي، وأضحى الانفصاليون يخشون من أثر التحولات الجارية في المنطقة، لذلك يحاولون النيل من بلادنا واستدامة العداء لنا.

وأمام هذه التفاعلات، من المفروض أن ترتفع درجة التعبئة السياسية بشكل استثنائي وفوري، بشأن قضايا الوطن وعزته، وثوابت الأمة المغربية، والدفاع الجاد عن مصالح الناس وعن طموحاتهم في العدل والتقدم. وعلى نخبنا السياسية وفعالياتنا الحقوقية، التي نحترمها ونقدر مجهوداتها، أن تركز مع قضايا استراتيجية هي أولوية الأولويات، حيث أننا لا يمكن أن نتقدم إذا استمر تكرار نفس “الوقفات” دفاعا عن “حقوق” لا يعترض عليها أحد، ولا ينتهكها أحد، وليس في نية بلادنا مراجعة القوانين المؤطرة لها.

المطلوب هو تخصيص كل الجهود للترافع ضد سياسات عمومية واختياراتها الاقتصادية والاجتماعية قاصرة تشكل “انتهاكات لحقوق معيشية” و”إعداما للأمل” في غد مشرق لضعاف الناس، في جهات ومناطق غير مشمولة بالقدر الكافي من مجهودات الاستثمار العمومي. ويمكن أن أورد حالات عديدة تنم عن غياب حس المسؤولية لدى بعض الفاعلين، كان حريا أن تكون هي موضوع “وقفات” لفضح التقصير الحكومي. ألم تمت قبل أسبوع، طفلتان دون سن العاشرة، بسبب لسعة عقرب، ولم تجد الأسر مصل مضاد للسم؟ ألم تنتحر ضواحي مكناس سيدة شابة لأنها لم تحتمل صدمة أفق إخلاءها وزوجها، العامل المياوم، وأبنائهم الثلاثة، من سكن اقتصادي بسبب عدم تسديد قسط القرض المنزلي؟ ألم يمت شاب خرج من بني ملال في اتجاه “حلم الهجرة الأوروبية”، فأعدم قصفا بطائرات حربية في مخيم ليبي للاجئين؟ ألا تكفي هذه الأمثلة؟ أم تريدون أن أذكر هنا كل حالات اليأس الذي يغرق فيه كثيرون بسبب غياب سياسات عمومية نستحقها من حكومة لا يبدو أنها تستطيع الدفاع عن مصالحنا؟

لكي يتسنى خلق أجواء التعبئة اللازمة لمواجهة مخططات النيل من مصالح بلادنا، على بعض الفاعلين السياسيين أن يخرجوا من دوامة الصراعات  التجاذبات التي يستحضرون فيها هيئاتهم، أكثر مما تستحضر الأبعاد الاستراتيجية للذات الجماعية الوطنية. كما أن على من يكلف نفسه عناء بث “لايفات على الفيسبوك”، ليخبرنا برأيه في “قضاياه”، ويتقاسم معنا “غضبه على إخوانه” في مواضيع انتهى من تدبير قوانينها، المشرعون بالبرلمان، أن يدرك أنه قد انتهى الكلام، وأن الأولى هو أن يقوم الجميع بالانكباب على مشاكل تنمية الوطن، وإعطاء العناية اللازمة لحلحلة مشاكل عزلة مناطق الهامش، وبلورة حلول وبدائل تنموية لمسألة التشغيل والعزلة الاجتماعية والاقتصادية، ليستمر الأمل ويتقوى حلم المغرب الصاعد الذي نحبه ونطمح أن نعيشه.

أما أحداث مساء يوم الجمعة بالعيون، فهي ليست إلا دليلا على استمرار “خلايا” انفصالية في التحرك بخبث في محاولة لاستغلال كل صغيرة وكبيرة، واستثمار مناخ الحرية الذي تعرفه بلادنا، وفي القلب منها أقاليمنا الجنوبية، لإحداث فوضى في الفضاء العام، وتجييش أطفال وشباب، وتخريب ممتلكات عامة وخاصة، والسعي لإيهام الرأي العام أننا إزاء “قضايا سياسية أو أمنية”، بينما الحقيقة أننا أمام سلوكات مجرمة لا يقبلها أي قانون في كل البلدان الديمقراطية.

شخصيا أعتبر ما تقوم به تلك “الخلايا” من زعزة للاستقرار وتحريض، لا يقل في دلالاته عن كل الأعمال التي تخطط لها “خلايا” من نوع آخر، يتم مواجهتها بحزم واحترافية واستباقية. لذلك أرى من المسؤولية والواجب الوطني التزام الحذر والتعبئة، والتفكير بعمق في سبل استباق محاولات النيل من استقرار قائم على الأرض، لا تفرضه “مقاربة أمنية” مزعومة، بل هو استقرار يؤطره تصور طموح ورغبة سيادية في تأسيس نموذج تنموي يقطع مع الريع ويستثمر في الرأسمال البشري وفي شباب أقاليم جنوب المملكة. وهو واقع مستقر يتعزز بولاء الشيوخ والشباب والنساء والقبائل والنخب المثقفة في الصحراء لثوابت الأمة المغربية، وانخراطهم اللامشروط في تطوير مسار البناء المؤسساتي الوطني، وتعزيز الحكامة والديمقراطية. أما من يروج لعكس تلك الحقيقة الميدانية، فإما أنه يريد أن يستمر في “المزايدة” ضمانا لمصالحه الصغيرة؛ أو أنه يخشى على “مواقع” خلد فيها دون فاعلية ولا استحقاق، لذلك يرفض الاعتراف بوجود ديناميكية إيجابية موازية لنخب صحراوية شابة وطنية، تنهل من حكمة شيوخ أماجد يحملون تامغرابيت الحقة، ويستحق أصحابها أن تعطى لهم فرص توازي كفاءاتهم وتمكنهم من حضور فاعل في تدبير الشأن العام المحلي والتأسيس لحكامة جيدة لنموذج الجهوية المتقدمة، في ظل السيادة الوطنية الجامعة للمملكة.

وكمواطنين مغاربة متشبثين بوحدة بلدنا واستقراره وأمنه وأمن مواطنيه، وسيادة القانون على كامل ترابه، وحماية هيبة الدولة ومؤسساتها، لا يمكننا الصمت أمام “دعاة الانفصال” أيا كانت هويتهم، وأيا كان من يوحي لهم بالخروج لزرع الفتنة، واللعب على أوتار مختلة في معزوفة تدبير الشأن العام بسبب ضعف أداء فاعل حكومي مسكون بهواجس انتخابية وبصراعات المواقع، أكثر من كونه مسكونا بهموم وقضايا تنمية الوطن وتحقيق رفاهية المواطنين. وللأسف، البعض يريد أن يتناسى، وينسينا، أن النموذج السياسي والاجتماعي والحضاري الذي تشكله المملكة المغربية له خصوم يتربصون به، وهم مستعدون لاستغلال أي هفوة أو تقصير أو بلبلة، لكي ينقضوا على مصالحنا الوطنية ويهضموا حقوقنا المشروعة.

لكل ذلك، يجب على الأصوات الحرة أن تذكر بأن قضايا الوطن معروفة وليس من ضمنها “الاصطفافات السياسوية”، و “تأجيج الصراع على الكراسي”، و “استدامة الأزمات الفارغة إلى ما لا نهاية”، و “الغضب و الاستنفار لأن انتخابات جزئية لم تحقق غلبة متوقعة”، و “الصراع على توزيع الوزارات في حكومة ستتشكل بعد انتخابات لا أحد يمكنه أن يراهن على هوية من سيفوز فيها”. كل ذلك لن يحمي الوطن، و من الأنجع أن يتوقف تشتث الجهود و الارتباك الحاصل في أولويات البعض، و أن نتجند لبلورة حلول و بدائل تنموية ليجد الشباب المغربي شغلا، و يجد المرضى خدمات صحية جيدة، و يجد الفقراء رعاية اجتماعية تحفظ الكرامة، و يجد المعاقون ولوجيات و مواكبة طبية، و يتم تنظيف مدننا من الأزبال، و توفير نقل عمومي، و تشجير، و تجهيزات القرب، و يتم التصدي للجريمة، و الحد من بشاعة ظاهرة التسول الكثيف في شوارعنا، و… و… إلخ.

المرحلة تحتاج للحزم و إخلاص النية. و من المفيد أن تتعزز المبادرات التي تحمل هاجس القرب من المواطنين و الاستماع إلى تظلماتهم و مشاكلهم، في كل مناطق البلاد، لتعزيز منسوب الثقة و تمكين نخب محلية و فعاليات المجتمع المدني بتلك المناطق من إسماع صوتها و العزم على المشاركة السياسية و المدنية. كما يجب استحضار اختيارات مبدئية و أخلاقية و استراتيجية يفرضها سياق ما يحدث في واقعنا. و ليس أبلغ مما ورد في خطاب جلالة الملك بمناسبة الذكرى ال 34 للمسيرة الخضراء، من أنه “لم يعد هناك مجال للغموض أو الخداع، فإما أن يكون المواطن مغربيا أو غير مغربي. وقد انتهى وقت ازدواجية المواقف والتملص من الواجب، ودقت ساعة الوضوح وتحمل الأمانة. فإما أن يكون الشخص وطنيا أو خائنا، إذ لا توجد منزلة وسطى بين الوطنية والخيانة، ولا مجال للتمتع بحقوق المواطنة والتنكر لها، بالتآمر مع أعداء الوطن”.

أما خصوم وحدتنا الترابية، الذين لا زالوا مستمرين في محاولات النيل من حقوقنا، و لا يهمهم أن تشيع المودة و الإخاء بين الأشقاء، فهم يعلمون أننا منفتحون ومسالمون، و نعرف معنى صون حقوق الجار و توقيره. وهم يعلمون أن “الصحراء قضية مصيرية للشعب المغربي الملتف حول عرشه، المؤتمن على سيادته ووحدته الوطنية والترابية”. وعليهم أن يعلموا أننا قادرون على أن نزأر بقوة مزلزلة حين تمس ذرة من أرضنا، أو لا يتم توقير مؤسسات دولتنا. و عندما يمس الوطن، و يزرع البعض بذور البلبلة و يسعى إلى استغلال الديمقراطية لإحداث الفتنة، فلا قضية و لا تجاذبات أخرى يجب أن تعلو أو تستحق “وقفات” و “لايفات”. وليتحمل كل مسؤوليته و يؤدي أمانته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *