بين جنازتين: جنازة الرئيس الجماهيرية وجنازة العالم ملائكية !!

تملك الصورة الذهنية التي تشكلها الشعوب عن رموزها وقادتها، القوة الحاسمة في صياغة مواقف وسلوكات وأذواق وتصرفات هذه الشعوب في الحياة، وتعطي لها القيم المناسبة للمعاني التي تطلقها على الأشياء، مما يكسبها القدرة على الاستمرار في الحياة مع أو ضد التيار، عبر ما تنتجه من قيم جديدة، واجابات مقنعة، تقدمها مفاتيح لمستقبل الاجيال، وما توفره من أدوات لانخراط شعوبها في التاريخ و صنع حضارة الأمم..

صحيح قد يحب شعب ما رئيسه أو أستاذه أو ولي أمره، وقد يحب آخر ثوابت أخرى كتعلقه بتراب وطنه لكنه لم يتمكن من العيش في ربوعها، وقد يكون ممن حارب من أجل حرية بلاده واستقلالها على طريقته، ولكنه حرم من امكانية ممارسة حريته في حدودها، فيموت غريب في وطنه، تلك هي قصص بعض حكام و علماء العصر، قصة عالم عراقي يموت وحيدا و يشقى بعلمه ؟؟ و موت رئيس دولة مسلمة يشيع بالألاف من خلق الله بعد أن جاهر بالكفر بثوابت بلد مسلم ..

أما بالنسبة للعالم الذي مات وحيدا، فقد نعت هيئة علماء المسلمين في العراق منذ أيام الأكاديمي الكبير الأستاذ الدكتورمحمد ضاري العيثاوي؛ وهو من أكبر علماء العربية ودراسات القرآن الكريم وعلومه، أستاذ بكلية الآداب في جامعة بغداد وعضو المجمع العلمي العراقي، الذي وافاه الأجل في بغداد اليوم الاثنين 15 جويلية 2019، ومما جاء في كلمة النعي، أن الفقيد ولد في بغداد، ونشأ فيها ودرس في مدارسها، حتى تخرّج من قسم اللغة العربية بكلية الآداب في الجامعة المستنصرية، ثم أكمل دراساته العليا في جامعة بغداد فنال شهادة الدكتوراه..

مضيفة بقولها، أن للدكتور محمد ضاري ـ رحمه الله ـ بحوث ودراسات كثيرة في اللغة والنحو والدراسات اللغوية ذات الصلة بالقرآن الكريم والحديث الشريف، من أبرزها:(الحديث النبوي الشريف وأثره في الدراسات النحوية واللغوية)، وهو من أشهر كتبه، وكتب له الانتشار بين العلماء وطلبة العلم في العراق وخارجه في دول العالم الإسلامي، وله أيضًا كتب أخرى ذات أهمية لأصحاب الاختصاص، أمثال: (حركة التصحيح اللغوي في العصر الحديث) و(النحت في العربية واستخدامه في المصطلحات العلمية) وغيرها من الكتب ..

كما أشرف الدكتور – رحمه الله – على عشرات الرسائل الجامعية في الماجستير والدكتوراه؛ وعرف عنه تواضعه الجم وأخلاقه العالية وتعامله الطيب مع طلبة العلم وغيرهم، من العراق و خارجها.

لحد الآن – قارئي الكريم- الخبر عادي للغاية، لكن الأدهى و الأمر لما نرى جنازة رجل بهذه القامة العلمية وعدد المرافقين للجنازة (كما هو مبين في الصورة المرفقة)، يصاب الانسان بخيبة الأمل في مستقبل العرب و حكام العرب وبلاد العرب، بل” زريعة العرب”!!

بالله عليكم.. عالم بهذا الحجم وهذه القامة في بلد مسلم حر مستقل، يشيعه أناس لا يتعدى عددهم، عدد أصبع اليد الواحدة، خمسة ، ستة نفر .. !!

تأسفت كثيرا، كما تـأسف غيري من الاخوة المشايخ و الأساتذة لحال العراق وشعب العراق، وإشفاء للغليل عن هذه الظاهرة العجيبة في مجتمعاتنا الإسلامية المحافظة، هتفت لأحد الاخوة العراقيين عن سبب هذه الجنازة الملائكية التي لم يحضرها البشر؟؟ في البداية تعجب زميلنا من الظاهرة، قائلا لي “لا أنت غالط، غير ممكن أن ترافق جنازة بعدد صغير.. لا تنسى أنه لا يجتمع العراقيون بالألاف إلا في مناسبات الجنائز .. ككل العرب طبعا!!”، و لما أعطيته اسم المرحوم و أرسلت له الصور، قال لي أن أغلب سكان بغداد شيعة، وأن عائله الضاری من زعماء السنه في العراق وقد قادوا المقاومة ضد الأمریکان والآن کلهم فروا بجلودهم خارج الوطن ولهذا المشیعون قلیلون.. !! مضيفا بقوله أن عائلة الضاری ھم أخوال الرئيس العراقي الأسبق عبد السلام عارف (1921 – 1966)، الرئيس الثاني للعراق، ووالده من الفلوجه ، و .. ؟؟ فقطعت المكالمة شاكرا معتذرا بقولي للأستاذ الكريم، نراكم والعراق بخير وفي أسعد حال مما هو عليه اليوم، مترحما على عهد صدام حسين و دكتاتورية حكم العسكر !! .. طبعا، هذا عذر أقبح من ذنب ؟؟

أمام هذه الصدمات من مثقفي العراق وشعب العراق، لا يسعنا إلا الترحم على العراق وعلى علماء العراق أمثال الدكتور محمد ضاري وغيره، فجزاهم الله عمّا قدموا وبذلوا خير الجزاء، وعوّض العراق وأهل العراق علماء ورجالاً أكفاء يبلغون العلم ويحفظون مكانته ويسعون إلى إعلائه وتحريره من كل أنواع الجاهليات الجهلاء المعششة بين أبناء البلد الواحد، الذي ما انفكت تنخر نسيجه منذ عقود هذه العصبية المقيتة، رغم “خروج الامريكان” و سقوط “معسكر البعث الجبان” ؟؟.

أما هذا الأسبوع، وفي تونس الشقيقة ضجيج كبير من نوع آخر، هناك جنازة من نوع آخر، إذ ودع الشعب التونسي بحزن كبير رئيسه الذي مات يوم 25 جويلية 2019 وتجلى ذلك في بث غير منقطع في القنوات العربية مدة ثلاثة أيام، خاصة يوم السبت ، يوم الدفن، حيث حضر جنازته عدد كبير من التوانسة و التونسيات، ناهيك عن حكام دول عربية وغربية. أما في المقبرة فقد اختلط الرجال بنساء كاسيات عاريات، لم يقدرن لا حرمة المقبرة ولا حرمة ساكنيها، وتعليقا على هذا العري وهذه الجاهلية، قالت إحدى المتكلمات التونسيات، في إحدى القنوات التونسية: “إن حرارة الشمس تتطلب مثل هكذا لباس و لو في جنازة.. مذكرة هي وأخريات أن تونس هي قبلة التحرر للمرأة العربية ؟؟”، صادحة بقولها :” إن المرحوم قايد السبسي قد سوى في الميراث بين الرجل و المرأة”.. :ما أخبرني أحد الزملاء التوانسة أن المصيبة الآن هناك أبواق تغريبيه مُطَالبة بتمرير قانون الميراث في البرلمان “إكراما لروح الرئيس وتنفيذا لوصيته”..

وقال بعضهم من منتخبي الشعب التونسي العلماني” نحن ننحاز علنا للقوانين التي دافع عنها الباجي قائد السبسي بشكل واضح وقطعي لا جدال فيه، ولو بعد موته”، ضاربين عرض الحائط أحكام القرآن الكريم في الميراث وغيره من أمور الشريعة في بلد مسلم كتونس، لا تزال زيتونته العطرة تصارع صومعتها الكفر في عقر دارها، منذ قرون ..

لا ننسى، فمنذ أن دعا الرئيس المتوفى الباجي قائد السبسي إلى تغيير قوانين الميراث خلافا لأحكام القرآن الكريم في 13 أغسطس/أوت 2017، عارضه بشدة، بعض الساسة التوانسة و خنس بعضهم حتى رموزا من التيار الإسلامي، لكن لا حياة لمن تنادي. واليوم هناك بعض الابواق، تريد تمرير “قانون الميراث لأن المرحوم أوصى بذلك”، على حد تعبير بعضهم ؟؟

من جهة أخرى علق أحد المشايخ التوانسة قائلا في تدوينة له: ” لقد قال رئيس تونس المتوفى قايد السبسي: مرجعيتنا الدستور.. لا الدين و لا القرآن”، ولقد قال قبله علامة تونس الطاهر بن عاشور رحمه الله: إذا قال لكم، أحد الناس مرجعيتنا الدستور وليس القرآن.. فاقرؤوا عليه الدستور إذا مات؟؟ فهل آن الأوان للجنة الإفتاء التونسية أن تقرأ هذا الكلام البليغ بعين و تبكي بعين..

للتذكير، فقد أعلنت دار الإفتاء التونسية، الإثنين 14 أغسطس/أوت 2017، تأييدها لمقترحات الرئيس السبسي التي طرحها خلال كلمته بمناسبة العيد الوطني للمرأة التونسية، ودعا فيها للمساواة بين الرجل والمرأة في الميراث والسماح للتونسيات بالزواج من أجانب غير مسلمين..

وقال – يومها- ديوان الإفتاء، في بيان له، إن مقترحات السبسي تدعم مكانة المرأة وتضمن وتفعل مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، التي نادى بها الدين الإسلامي في قوله تعالى: ” وَلَهُنَّ مِثلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالمَعرُوفِ “، فضلاً عن المواثيق الدولية التي صادقت عليها الدولة التونسية والتي تعمل على إزالة الفوارق في الحقوق بين الجنسين.

كما شدّد ديوان الإفتاء في بيانه على أن المرأة التونسية نموذج للمرأة العصرية التي تعتز بمكانتها وما حققته من إنجازات لفائدتها وفائدة أسرتها ومجتمعها، من أجل حياة سعيدة ومستقرة ومزدهرة، معتبراً رئيس الجمهورية أستاذاً بحق لكل التونسيين وغير التونسيين، وهو الأب لهم جميعاً، بما أوتى من تجربة سياسية كبيرة وذكاء وبعد نظر، لأنه معروف عنه أنه يُخاطب الشعب من القلب والعقل..”

هذا، ما جاء في بيان دار الإفتاء التونسية، العام الماضي، فهل ستبقى مواقفها كذلك بعد رحيل السبسي؟؟ أم تعود لرشدها وتستغفر ربها و تتوب إليه، بل وتعتذر ليس فقط للشعب التونسي المسلم المسالم، بل للأمة الإسلامية قاطبة، لأن في قرارها الجائر سالف الذكر تجني على الله و تحريف لكتاب الله، ومس بمشاعر عباد الله ..

وهل آن الأوان اليوم، بعد هذه الجنائز، جنازة الرئيس الجماهيرية في تونس و الجنازة الملائكية في العراق، أن تتعظ لجنة الإفتاء التونسية بالموت، وأن الموت كأس و كل الناس شاربه.. حري بهذه اللجنة التي تتلمذ بعض رجالها على علماء العراق أن تترحم، ولو ببرقية عزاء (عن طريق سفارتها في العراق) للمرحوم الأكاديمي الكبير الأستاذ الدكتور محمد ضاري عضو هيئة علماء المسلمين في العراق، الذي تتلمذ على يديه العديد من المغاربة منهم أعضاء سابقون في لجنة الإفتاء التونسية الحالية.. والله يقول الحق و هو يهدي السبيل.