وجهة نظر

أوريد يكتب.. ما بعد قضية هاجر الريسوني

لا أظن أن مغربيا مفعما بقيم الحرية والكرامة لا يشعر بالحزن مقرونا بالامتعاض لقضية هاجر الريسوني. المسألة ليست فيما إذا اجترحت هاجر الريسوني ما يُنسب لها أم لا، ولكن فيما نجم عن القضية من تشهير وضرب قرينة البراءة عرض الحائط وتعسف في استعمال النصوص، وعدم احترام السرية في البحث. ما لازم قضية هاجر الريسوني لا يسيء لها وحدها، بل إلينا جميعا، ولصورة للمغرب كنا نفاخر بها، ونُغبَط عليها..

من أي مرجعية نعتمدها، نجد دوما حيزا يصون حميمية الأشخاص، إما من منطلق الحرية الفردية، كما في المرجعية الحديثة، وإما من المرجعية الإسلامية التي تشجب التنابز، وأكل لحم المسلم لأخيه، و تدعو لحرمة الإنسان في نفسه وعرضه وماله، وتجعل حرمته أعظم عند الله من حرمة البيت الحرام، كما جاء في الأثَر، وإما من منطلق المذهب المالكي الذي يعتمد قاعدة درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة، (ولا أدري أي منفعة يمكن أن تُجلب في الحالة هذه،) وفيما تواتر من تقاليد مغربية راسخة حول ستر الأعراض، وستر ما ستره الله، كما يردد المغاربة…

ظلت السلطات المغربية من خلال أجهزتها الأمنية دوما حذرة فيما يخص الحياة الشخصية للأفراد، ولم تقتحمه، ولم توظفه. ويذكر الجميع كيف تم تدمير الأفلام التي صورها الضابط ثابت لضحاياه، صونا للأعراض. وسبق لجريدة لومند أن نشرت قبل سنوات ما جرى لوزير فرنسي في فندق المامونية بمراكش من شجار مع خليلته، مع الضرب والجرح، وكسر لأمتعة الفندق. تسترت الأجهزة الأمنية عن الحادثة، ولم يتسرب شيء مما قام به هذا المسؤول الفرنسي. ولولا ما نشرته لومند في صفحة كاملة لم يكن ليعرف. وأذيع لاعتبارات سياسية مرتبطة بسياق فرنسا. كان الجزاء سياسيا، ووُضع حد لمسار لذلك الطبيب الذي كان يتقلد منصبا سياديا. تصرفت الأجهزة المغربية حينها بمهنية، ويُحسب لها ذلك.

أين نحن مما صاحب قضية هاجر من هذا كله ؟

ما الذي قد يعاب عليها ؟ أنها أحبت. وهل الحب فساد ؟ وهل نضرب صفحا عن واقعنا الذي تتداخل فيها مؤثرات عدة، لم نفكر فيها بعمق، وبقينا حبيسي أحكام جاهزة، وفق قوالب قائمة، وظل القانون متخلفا عن الواقع.

مشكلتنا هو أننا نعيش تداخل مرجعيات فيها القديم والحديث، التقاليد والقيم الحديثة، مع ما يؤدي ذلك من انفصام، واعتقدنا أنه بالتلفيق يمكن أن نتجاوز التناقضات الناجمة عن هذا التداخل. وإذا كان ينبغي المحاكمة فلْنحاكم الواقع بتناقضاته، واختلالاته، ومآسيه. ثم أليس الأجدى عوض الحكم أن نفهم هذا الواقع ونتجاوز اختلالاته.

لسنا معصومين، ومن المُسلم به أن نخضع للقانون حينما نجترح ما يخالفه، لكن ماذا حينما يكون القانون متخلفا عن الواقع، وماذا حينما يكون تطبيق القانون اختزاليا حسب الظروف والأشخاص والحالات ؟ وماذا حين يكون منطوقه منافيا لروحه، أو حين يتم التعسف في تطبيقه أو تأويله؟ كان يتم تجاوز الاختلال ما بين النصوص والواقع، بالتحايل أحيانا من قِبل المواطنين، والتغاضي من قبل السلطات. وهو الأمر الذي لم يعد ممكنا، لأن على النصوص أن تتلاءم والواقع، وليس هناك ضمانة كي لا تتعامل السلطات بمزاجية وانتقائية.

لا يمكن أن نضحي بالواقع من أجل نصوص تجاوزها الواقع. ولا حاجة للأمثلة التي يظهر فيها التضارب ما بين النصوص والواقع، وما بين الخطاب والسلوك…

هل الحب فساد ؟ النص القانوني كما وُضع، في سياق معين، يربط “الفساد” بعلاقة خارج الزواج. لكن هل الواقع يطابق هذه الصورة ؟ هل العلاقة التي تنتسج بين فتاة وفتى، في إطار الحب، وتتطور إلى زواج فساد ؟ أو لا يكون فسادا الإعضال والعنف والاغتصاب في دائرة الزواج ؟ ألا ينبغي والحالة هذه تعريف الفساد ؟

هاجر ضحية قوانين متجاوَزة بل جائرة، كما قال الباحث أحمد عصيد، وضحية تأويل معين للقانون. كل تطبيق اختزالي للقانون ليس دليلا على حالة القانون.

لقد طُرحت قضية تقنين الإيقاف الاختياري للحمل قبل أربع سنوات من لدن الطبيب منير الشرايبي في شجاعة نادرة. لقد اختار هذا الطبيب أن يضع حدا للنفاق وما يترتب عن ذلك من مآسي… وتم إجهاض هذه البادرة كي نعيش هذا التذبذب وما يتمخض عنه من مأسي اجتماعية والغموض الذي يوظَّف حسب الحالات.

ما طالب به الدكتور الشرايبي هو تقنين الإيقاف الاختياري للحمل، حسب الحالات، ليس من أجل التسيب أو التحلل الخلقي…لم يزعم أحد أن المسألة سهلة بالنظر إلى من قد يتمسك بفهم حَرفي للنصوص الدينية، لكن ذلك لا ينبغي أن يصرفنا عن مآسي الواقع، المترتبة عن فهم جامد للنصوص، لطرح النقاش، من كل الشرائح، بما فيهم العلماء، إذ لم يعدم المغرب علماء متنورين يحسنون تأويل النصوص وقراءة الواقع… وضاعت تلك الفرصة للنظر للواقع، وها نحن اليوم نؤدي ثمنها. ولا ينبغي أن نُضيعها اليوم.

شيء ما خُدش في هذا الزجاج البلوري لبلد استطاع دوما أن يوفق بين العقل والتقاليد، وألا يوظف العقل للإجهاز على التقاليد أو يستخدم التقاليد لمحو العقل…استطاع ذلك لأنه الوريث الشرعي للأندلس، في نزوعها العقلاني، في احترامها للآخر، في تسامحها. فهل هان علينا هذا المنزع لكي تصبح لنا شرطة أخلاق ومُطوِّعين وحِسبة، فضلا عن أبواق التشهير والافتراء والاختلاق؟

أين نحن من صورة البلد الذي احتضن أبناءَه من كل المشارب، يصون عقيدتهم، ويحفظ كرامتهم، ولا يثلب أعراضهم، ويقبل منهم حرية الفكر واختلاف الرأي ؟

لقد سقطت من أيدينا، في هذه النازلة، ورقة كنا نفاخر بها.. فعسى أن نتدارك هذا الزيغ صونا لصورة بلد يريد أن يشق طريقه نحو الحداثة دون أن يفرط في تاريخه ومقوماته الحضارية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • غير معروف
    منذ 4 سنوات

    مرافعة رصينة.... وماأثار انتباهي فيها أيضا هو قول الكاتب: المغرب هو الوريث الشرعي للاندلس...

  • غير معروف
    منذ 5 سنوات

    يمكن أن نضيف إلى الأسئلة التي طرحها الأستاذ المفكر هل منع الإجهاض سيدرأ الفساد ويمنع العلاقات خارج دائرة لزواج أليس من شأن منع الإجهاض ان يتسبب في فساد آخر فيعطينا متخلى عنهم معرضين لكل أنواع القهر والظلم الاجتماعي وما سيصدر عنهم أمن أفعال وردود أفعال تنخر مجتمعا هم ضحاياه ؟؟؟ علينا أن تتحرر من نفاقنا

  • غير معروف
    منذ 5 سنوات

    يؤسفني ان نقرأ مقالا في مثل هذا العمق يعبر عن رأي وموقف ناتجين عن بعد في النظر و جدية في التمحيص وعمق في التحليل وقراءة الواقع وتأتي بعض التعليقات السطحية المستهلكة من قبيل تفسير فساد الحاضر بالتفريط في الماضي ثم ان المقال يطرح أسئلة من شأن البحث في الجواب عنها بدون نفاق وبدون عقلية تبريرية ان يحررنا من قيود فساد الواقع/الحاضر ومن تسلط الماضي ويفتح أمامنا آفاقا تمك

  • غير معروف
    منذ 5 سنوات

    يؤسفني أن نقرأ مقالا في مثل هذا العمق يعبر عن رأي

  • غير معروف
    منذ 5 سنوات

    لا أحب نظريات المؤامرة ولكنها أستاذي المؤامرة الكبرى ليست الريسوني ولا بوعشرين ولا الريف ولا الشرق المنهوب المهمش ولا الجنوب المهمش المسيب...اللهم عليك بأذناب الفساد والإفساد واحفظ البلد من مكرهم ...

  • غير معروف
    منذ 5 سنوات

    غاب ثانية عنالاستاذ، والله أعلن، أن القضية ليست في قوانين لم تحين و هذا عمل الأحزاب الكسولة، ولكن القضية فضية أجنحة متخفية تدبر الأمر العام من وراء حجاب فتفعل ما تشاءمن شرائع وتغيب ما تشاء وتزج بالمغرب في أتون فوضى فاضحة لا لشيء إلا لسواد عيون أهل المال والسلطة... مغرب يفقّر ويجهّل ويقضى على هويته وتاريخه دون أنتطرف للنخبة جفون...

  • غير معروف
    منذ 5 سنوات

    أولا، ربما غاب عن الاستاذ أن الصورة المشرقة والمشرفة التي تمتع بها المغرب يالفا كانت نتاج تمسكه بدينه وقيمه...لكن فعلت الحداثة المعوجة والقهرية فعلها فها نحن نلرى نتائجها...

  • غير معروف
    منذ 5 سنوات

    الكل فينا قد يُرى مستَنفذُ ... والحق أُغمض والشعور مُسهد فينا سليم الفكر منهم حسنٌ ... أمثاله ملأوا البلاد فحُيِّدوا نرجو لفكر اللامعين إنارةً ... أقدامهم في كل حيٍّ تُعهدُ تجديد فكرٍ فيه نهجٌ صالحٌ ... فيه القديم ثبات فكر أشهدُ لا نرتقي إلا بما كان الأُلى ... وبهم جديد الفكر رفداً نسعدُ

  • غير معروف
    منذ 5 سنوات

    المسألة لا تتعلف بالفساد أو بالزواج الشرعي او غير الشرعي ..الامر يتعلق بجريمة يعاقب عليها القاون المغربي " جريمة الاجهاض " وعوض ان نؤاخذ القضاء على تطبيق القانون من غير محاباة لاحد خصوصا إذا تعلق الامر بابنة أخ أحد كبار مجرميه كان علينا أن نضغط على ممثلينا في الغرفتين الذين يتقاضون أجورا عالية وغير مستحقة من أجل تقديم قانون يجيز الاجهاض وتنتهي الحكاية هنا

  • غير معروف
    منذ 5 سنوات

    الله ينورك عين العقل وباختصار قال السيد المسيح عليه السلام من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها والسلام