سياسة، مجتمع، ملف

“بلوكاج” طويل.. من وضع العصا في عجلة مشروع القانون الجنائي؟

ليس من المؤكد متى سيخرج مشروع تعديل القانون الجنائي إلى الوجود بعد مسار طويل من “البلوكاج”، خصوصا بعد تقديم الفريق الاشتراكي وفريق التجمع الدستوري بمجلس النواب طلبا يقضي بتأجيل آخر لتقديم الفرق والمجموعة النيابية لتعديلاتها، والمحدد في (20 شتنبر 2019) إلى أجل غير مسمى، ولكن الأكيد أن المشروع سيأتي دون طموح القوى المطالبة بتعزيز الحريات الفردية، عبر منح المرأة الحق في الإجهاض، وإلغاء عقوبة الإعدام، في وقت استبعد عن النقاش إباحة العلاقات الرضائية والمثلية الجنسية.

وليس معروفا ما ستؤول إليه الأوضاع بعد مستجد تهديد حزب التقدم والاشتراكية بالانسحاب من الحكومة، ومعلوما أن الحزب هدد في وقت سابق بمغادرة سفينة الحكومة في حال ما تمت المصادقة على مسودة مشروع القانون الجنائي الصادرة سنة 2015، وفي حالة المس بالحريات الفردية، وسنرى كيف سيكون موقف المجموعة النيابية للتقدم والاشتراكية بمجلس النواب خلال مناقشة قضية الإجهاض وحصره في 6 حالات عوض جعله حقا من حقوق المرأة في إطار التمكين للحريات الفردية التي كثيرا ما يجعلها اليساريون والليبراليون ساحة للمزايدات السياسية.

تأجيل موعد تقديم التعديلات كما أكده رئيس اللجنة لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان توفيق الميموني في تصريح لجريدة “العمق”، وأقره رئيس الفريق الاشتراكي شقران أمام، يعيد إلى الأذهان ما حدث في غشت 2016 حين وضعت فرق الاتحاد الاشتراكي، والاستقلال، والأصالة والمعاصرة، والاتحاد الدستوري، طلبا أمام اللجنة تدعوها إلى تأجيل موعد وضع التعديلات إلى وقت لاحق، فأدى ذلك إلى دخول مشروع تعديل القانون الجنائي إلى مرحلة من “البلوكاج”، سيأتي إيراده في تسلسل زمني.

 اجماع على حق “منقوص”

وسواء التفتنا ذات اليمين أو ذات الشمال في التوجهات الإيديولوجية المكونة للحكومة أو المتواجدة في البرلمان، سنجد أنها استبعدت أثناء مناقشة مشروع القانون الجنائي إباحة الإجهاض، وهو بيت القصيد هنا، باكتفائها بخلاصات اللجنة الملكية المحددة للحالات المسموح بها بالإجهاض في 6 حالات تتعلق بالخوف على صحة الأم، والاغتصاب، وزنا المحارم، والأمراض الجينية أو التشوهات الخلقية، والحامل المختلة عقليا، وهنا قال عضو اللجنة عن فريق “البيجيدي” نجيب البقالي، في تصريح لجريدة “العمق”، “لا أحد في اللجنة طالب بإباحة الإجهاض بشكل مطلق وفي حالة الفساد”.

ولقطع الشك باليقين، أكد رئيس اللجنة لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان، وعضو فريق الأصالة والمعاصرة توفيق الميموني أن النص الحالي لمشروع القانون الجنائي لا يتضمن جعل الإجهاض مباحا بالمطلق وإنما 6 حالات فقط، وبينه عضو اللجنة عن فريق “البيجيدي” نجيب البقالي بالقول “نحن لن نكون مع الإباحة المطلقة للإجهاض”، موضحا أن بعض الجمعيات الحقوقية هي من تطرح تلك الفكرة، وذلك في تدافع بين مدرستين، الأولى مدرسة الحق في الحياة، والثانية مدرسة الحق في الحريات الفردية.

وحده النائب البرلماني عن فيدرالية اليسار الديمقراطي عمر بلافريج من خرج للمطالبة بإباحة الإجهاض، وإلغاء عقوبة الإعدام، والسماح بالعلاقات الرضائية، والمثلية الجنسية، وتبقى مطالبه كلاما إلى حين طرحه أمام الجلسة التشريعية للبرلمان والحسم فيها، بمنطق الأغلبية والأقلية. ويبدو من خرجة رئيس الحكومة القائد للائتلاف الحكومي سعد الدين العثماني أن تلك المطالب لن تجد لها طريقا إلى المشروع، بعد قول العثماني إن “هناك من يستغل كل فرصة لاستهداف الثوابت الدينية”، مضيفا أن اللجنة الملكية قد حسمت قضية الإجهاض في إطار تلك الثوابت.

ويظهر أن ما جاءت به اللجنة الملكية متماه مع ما اقترحه العثماني في مقترح قانون سنة 2010، عدد فيه الحالات التي يرى أنه لا مانع من السماح لها بالإجهاض، وهي الحمل الناجم عن اغتصاب أو زنا المحارم، على أن يتم الإجهاض في  الأسابيع الستة الأولى من الحمل، وعلى يد طبيب أو جراح في مستشفى عمومي، وإصابة الجنين بتشوهات خلقية أو أمراض جينية تستعصي على العلاج، وأن يكون ذلك مثبتا، على أن يتم الإجهاض بناء على طلب الوالدين، وخلال الـ120 يوما الأولى من الحمل.

(مبيان يبين الحالات المسموح فيها بالإجهاض في دول عربية)

تجزيئ الحريات الفردية

وحتى أن رئيس الفريق الاشتراكي شقران أمام، وعضو المجموعة النيابية للتقدم والاشتراكية جمال بنشقرون كريمي رغم انتسابهما إلى التيار اليساري، إلا أنهما يشددان على ضرورة التدرج في إقرار الحريات الفردية في استحضار للسياق المجتمعي، فقال شقران أمام “هناك مجموعة من الإصلاحات البنيوية والأساسية التي يجب تنزيلها بالتدرج وليس بإحداث قطيعة، وذلك بناء على طبيعة المجتمع مثل النقاش المرتبط بالإجهاض والإعدام والحريات الفردية والعلاقات الرضائية خارج مؤسسة الزواج”.

ويشدد شقران على ضرورة النظر إلى المجتمع المغربي برمته، موضحا أن المجتمع وما يفكر فيه ليس بالضرورة هو ما تعكسه النخبة في نقاشها، معتبرا العمل الذي قامت به اللجنة الملكية في مسار قضية الإجهاض خطوة نحو الأمام، مشيرا إلى أنه ورش للإصلاح مزال مفتوحا، مضيفا أن فريقه قدم ملاحظة أثناء مناقشة تعديل القانون الجنائي وتتعلق بمناقشة مشروع القانون كاملا إلى جانب المسطرة الجنائية باعتبارهما مترابطان.

وتحفظ جمال بنشقرون من الحريات الفردية المطلقة وجعل الإجهاض حقا في يد المرأة، وقال “إذا ذهبنا إلى إقرار مبدأ حرية المرأة في جسدها فسنصبح أمام الحريات الجنسية بشكل غير محدود، وليس أمام الإجهاض”، وفي اكتفاء بالحالات المتفق حولها قال “نحن مع الحالات التي تم الاتفاق عليها سلفا والتي شكلت نقطة مفصلية منذ سنة 2015 لما دعا الملك محمد السادس وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية وزير العدل والمجلس الوطني لحقوق الإنسان آنذاك إلى دراسة الوضعية في المغرب”.

تماهي المواقف 

وتتماهى هذه المواقف مع ما عبر عنه القيادي في التجمع الوطني للأحرار وزير العدل محمد أوجار حين عقب على النائبة من الفريق الاشتراكي أمينة الطالبي، بضرورة “استحضار إرادة توافقية ليكون القرار الذي سيُتفق حوله منسجما مع السياق العام والمحيط الاجتماعي والثقافي السائد في البلاد، وذلك بناء على الخلاصات التي تمخضت عنها مشاورات اللجنة الملكية مع الفاعلين المعنيين.

ويبدو شبه الإجماع في مسألة الإجهاض الذي تحدث عنه عضو اللجنة عن فريق “البيجيدي” نجيب البقالي، يتقاسمه معه جمال بنشقرون، رغم أنه يرى ضرورة ربط نقاش الحمل مع المنظومة الصحية بعيدا عن المنظومة الدينية، إلا أنه يعود ليؤكد أن المرأة لها الحق في التصرف في جسدها، ولكن وفق ضوابط تهدف لضبط استقرار المجتمع وتوازنه لتنوعه العرقي والثقافي واللغوي، في تعايش بين التقدم والحداثة المنتشرة بالعالم وبين التربية الدينية التي لا يجب التخلي عليها.

وفي ظل الجدل الدائر حول قضية الإجهاض، تقدر الجمعية المغربية لمكافحة الإجهاض السري إجراء ما بين 600 و800 عملية إجهاض تقع يوميا في المملكة، في وقت تتحدث فيه منظمة الصحة العالمية عن 1300 حالة يوميا، وتختفي عن خريطة الإحصائيات المتعلقة بالإجهاض المتحكم فيه في السر أرقام الإجهاض التقليدي بوصفات طبيعية، وهي الخرائط المستعصية على الاستيعاب رغم السعي نحو التقنين والتوسيع المنضبط.

وبالرجوع إلى تقرير رئاسة النيابة العامة لسنة 2018 نجد أن من أصل مئات الحالات من عمليات الإجهاض غير القانوني يوميا، لم يصل إلى المحاكم المغربية سوى 54 قضية خلال سنة، توبع على إثرها 73 شخصا أمام العدالة، وسجل تقريرها برسم سنة 2017 نسبة أقل تتمثل في 40 عملية إجهاض زيادة على حالة واحدة نتج عنها وفاة تبع على إثرها 3 أشخاص، وانضافت تلك المؤشرات إلى معطيات كشف عنها الحسين الوردي، لما كان وزيرا للصحة، تشير إلى أن 4.2 في المائة من مجموع وفيات الأمهات و5.5 في المائة من وفيات الأمهات الناتجة عن التعقيدات المباشرة للولادة مرتبطة بالإجهاض، حسب التقرير الثاني للجنة الخبراء الوطنية الخاص بالتدقيق السري لوفيات الأمهات لسنة 2010.

(إحصائيات رئاسة النيابة العامة وضمنها المتابعة بتهمة الإجهاض)

من “بلوكاج” إلى “بلوكاج”

في استرجاع لشريط الأحداث، نجد أن فكرة تعديل القانون الجنائي جاءت كقبس من وهج “الربيع الديمقراطي 2011” بعد طول نضال متواصل للقوى الحقوقية المغربية، ورغبة في ملاءمة قانون “الجزاءات” المغربي مع الدستور، وهنا حاولت وزارة العدل والحريات آنذاك العمل على إعداد مسودة لتعديل جميع فصول القانون الجنائي، لكنها لم تلاحظ أن موازين القوى بدأت في التحول. وبعد أن خرجت المسودة 31 مارس 2015 بعد سنتين من الإعداد تعرضت لـ”بلوكاج” أول الطريق، فأدى ذلك إلى الاكتفاء بتعديل بعض الفصول عوض تغيير القانون برمته.

وبعد أن قبلت أحزاب الأغلبية الحكومية بما يمكن تسميته “نصف قانون جنائي”، صادق المجلس الحكومي على المشروع، بتاريخ الخميس 09 يونيو 2016، وبسرعة البرق تمت إحالته على مجلس النواب بتاريخ الجمعة 24 يونيو 2016، ليحيله المجلس بشكل انسيابي دون أية عرقلة إلى لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بتاريخ الاثنين 27 يونيو 2016. وكان معدو مشروع القانون يعتقدون أن الطريق أصبحت سالكة لاعتماده دونما عراقيل لكنهم تفاجئوا بـ”بلوكاج” جديد.

فبعد تحديد موعد للمصادقة على تعديلات الفرق والتصويت على المشروع، وضعت فرق الاتحاد الاشتراكي، والاستقلال، والأصالة والمعاصرة، والاتحاد الدستوري، في غشت 2016 طلبا أمام اللجنة تدعوها إلى تأجيل وضع التعديلات إلى وقت لاحق، وانطلقت مرحلة من “البلوكاج” وهذه المرة لا تتعلق بمشروع القانون فقط بل بمرحلة سياسية، مع ملاحظة أن فرق الأغلبية لم تقدم تعديلات جوهرية على مشروع القانون بهدف ضمان تمريره في أقرب وقت، مكتفية ببعض التعديلات الشكلية.

ظل القانون عالقا في أروقة لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بالمجلس إلى أن شهدت الساحة السياسية انفراجا انعكس على المسار التشريعي لمشروع القانون الجنائي، وهنا لا يجب أن ننسى أن المرحلة السابقة عرفت إدراج 6 حالات يعتزم المشرع السماح فيها بالإجهاض، بعد انتهاء المشاورات حول الموضوع، فيما مسودة مشروع القانون، كان معدوها قد وضعوا ملاحظة في الفرع الخاص بالإجهاض تقول (في انتظار المشاورات حول الموضوع)، فخطى المشروع خطواته نحو المصادقة، لكنه وجد أمامه مرحلة من “البلوكاج”.

(مسودة المشروع تعلق مواد الإجهاض في انتظار مشاورات اللجنة الملكية)

 

تهديد بالإستقالة

وخلال هذه المرحلة، أي في سنة 2018 خرج وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان، ليؤكد أن هناك جهات منزعجة من مشروع القانون الجنائي بسبب تجريم الإثراء غير المشروع، موضحا أن ذلك ما دفعها إلى عرقلة مناقشة المشروع، بعد انصرام حوالي سنتين على إحالته على البرلمان، قائلا “لن أتنازل عن الفصل المتعلق بتجريم الإثراء غير المشروع، وإذا كان من اللازم أن أربطه بتصرف سياسي كبير فسوف أفعل؛ لأنّ المغاربة يريدون محاربة الفساد”.

وخلال هذا المسار تقدمت المجموعة النيابية للتقدم والاشتراكي بمجلس النواب بمقترح قانون يتعلق بتنظيم الإيقاف الطبي للحمل، يهدف أولا إلى إخراج قضية الإجهاض من مجموعة القانون الجنائي وإدراجه ضمن قوانين “الأخلاقيات البيوطبية للمواطنات والمواطنين”، وثانيا حدد حالات مشابهة لما اقترحه اللجنة الملكية ومقترح قانون سابق لسعد الدين العثماني في اختلاف في بعض الجزئيات مع إضافة حالة الفتاة الحامل قاصرا.

وما بين “بلوكاج” و”انفراج” كان المشروع خاضعا لتنازلات متوالية دون تأثير بمطالب القوى التحريرية المطالبة بتعزيز الحريات الفردية عبر السماح بالعلاقات الرضائية، وحق المرأة في التوقيف الاختيار للحمل، والسماح للمثليين بممارسة حقوقهم الطبيعية، وإلغاء عقوبات الإعدام، وإلغاء القيود المعيقة للحقوق رغم أن الأحزاب الاشتراكية والليبرالية ممثلة في الحكومة سواء الأولى أو الحالية، وسنرى أن أي من تلك الأحزاب على سبيل المثال لم يتحدث خلال النقاش عن السماح بالإجهاض كحق من حقوق النساء.

الصراع والبيروقراطية

وفي استقصاء لأسباب “البلوكاج” المعرقلة لخروج مشروع القانون الجنائي إلى الوجود، رمى النائب عن المجموعة النيابية للتقدم والاشتراكية جمال بنشقرون كريمي التهمة على النزاع السياسي والاختلاف الإديولوجي بين قطبي الحداثة والأصولية في رجوع إلى خلاف مدونة الأسرة، فيما أرجعه رئيس اللجنة لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان توفيق الميموني إلى تقديمه في آخر عمر الولاية الحكومية السابقة، وعدم الشروع فيه إلا في 2017، إلى جانب كثرة المقتضيات الواردة فيه والمتعلقة بحريات الأفراد والنظام العام.

أما عضو اللجنة عن فريق “البيجيدي” نجيب البقالي فقد سرد جانبا من القصة الطويلة لمسار المشروع، ليخلص إلى أن اللجنة ساهمت في مرحلة “البلوكاج” بقسط بسبب انكبابها على إخراج القوانين المستعجلة من قبيل نصوص مؤسسة وسيط المملكة، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والقانون التنظيمي المتعلق بالدفع بعدم دستورية قانون، إلى جانب إخضاع مشروع القانون لنقاش طويل اعتبارا لكونه سيرهن حريات المغاربة لعقود طويلة.

مصدر من داخل اللجنة رمى التهمة على البيروقراطية، ليؤكد أن “البلوكاج” لم يستهدف تأخير أو حتى الاقتراب من فصول الإجهاض بمشروع القانون الجنائي، بسبب هندسته من طرف اللجنة الملكية، متحدثا عن وجود إجماع خلال مناقشته، مرجعا تأخره إلى ورود مقتضيات بمشروع القانون حول الإثراء غير المشروع خلال الولاية السابقة حيث كان “البلوكاج” سياسيا، ليخص إلى أن الولاية الجديدة للحكومة أحرز نقاش المشروع تقدما أبطأته كثرة النصوص القوانين المعروضة على اللجنة.

يظهر من كل المعطيات المتوفرة، ومن تسلسل الأحداث أن نقاش الإجهاض لن ينتهي حتى بإخراج مشروع القانون الجنائي إلى الوجود، لكنه كشف عن سوق مزايدات سياسية في حقل الحريات الفردية، كما هو الشأن بالنسبة للإعدام الوارد في مشروع القانون الجنائي، وحتى في القضايا المستبعدة حالية من النقاش في الجانب الجنساني، كما كشف عن ازدواجية المواقف المطروحة في الساحة واختلافها عن تلك المصرح بها داخل أروقة التشريع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *