وجهة نظر

أفتؤمنون ببعض الحرية وتكفرون ببعض؟

كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن الحريات الفردية الخاصة بالأشخاص، ذكورا وإناثا، رجالا ونساء، وذهب فيها القوم كل مذهب. وأصَّل لها العلماني والإسلامي. وحولها البعض إلى محط للجدال، ومحل للصراع الفكراني والأيديولوجي؛ بين من يعترف بها، ويحصر فضاءها إلى حدود معقولة. ومن أرخى لها العنان، وجعلها فوق الحدود، ودعا لإسقاط القانون المُجَرِّم، والشرع المُحَرم، واعتبر الحق في إطلاق العنان لشهوات النفس، والجسد، حقا يجب أن يكون مكفولا دون قيد ولا شرط…
وهكذا استمر الجدال، وسيستمر، ما دامت الخصومة الأيديولوجية قائمة، والصراع الفكراني كائن ومترسخ بين تلوينات وتعبيرات ساحة التدافع السياسي والفكري في هذا البلد، وفي سائر بلاد العرب والمسلمين.

لكن، في المقابل، ظلت هذه الحرية تتلقى الضربات، من روادها، ومناصريها، في ساحة التدافع السياسي/الانتخابوي. وأصبح ما هو محرم، تؤطره القناعات العَلمانية واللادينية، حول الأفراد، والأشخاص الذاتيين، وتؤصل له صراعاتهم المستمرة في معركة تثبيت الذات ضد الشرع/الدين والقانون، حينما يتعلق الأمر بالاشخاص، والأفراد؛ حلالا زُلالا، حينما يقصدون إلى انتهاك خُوَيْصات الأشخاص المعنويين (الأحزاب، والتنظيمات المدنية،…)، في حلبة الصراع السياسي والحزبي.

فالحرية قيمة إنسانية فوق كل استغلال يبغي تحقيق غايات ظرفية، أو تصفية حسابات خاصة. فهي قيمة غير قابلة للتلوُّن، أوالتجزيء، حتى نأخذ منها وندع. فهي للأشخاص كما للمجتمعات، كما للتمركزات السياسية والفكرية، سواء وسيان. فحينما نؤمن بها كقيمة إنسانية لهذا الطرف، وننافح دونها، من أجله، فلا يحق لنا أن نخرق اعتبارها حينما يتعلق الأمر بطرف آخر كان شخصا ذاتيا، أومعنويا.

فهي للأفراد حق مقدس، في حدود يتواضع عليها العالَمون، وهي للمجتمعات والتكتلات السياسية والفكرية كذلك حق لا يحق لأحد أن ينتهك حياضها، أو يعبث باعتبارها القيمي المقدس.

فلقد سرت في الآفاق، في الآونة الأخيرة، خطابات انتهاكية لكائنات ظلت “تُصَدِّع” رؤوسنا بالغيرة على الحريات الفردية، وبلغت مبالغ غير مسبوقة في الدفاع عنها، حتى دعت إلى إسقاط أحكام القانون، والشرع، من أجل التمكين لها في المجتمع المغربي. لكنها، في المقابل، لم تستحي أن تنتهك ذات الحرية لخصوم على وَغَى التدافع السياسي؛ فأوغلت في انتهاك خصوصياتهم الذاتية، والتدخل في قناعاتهم السياسية ومنطلقاتهم المذهبية الفكرانية، في ضرب صارخ لحق التنظيمات والأحزاب في تبني المنطلقات التي تراها الأجدر بالتأسيس لرؤى التغيير، وفلسفات التأطير الجماهيري. والأوفق للقناعات المجتمعية التي توجه إليها خطاب الاستقطاب. وهي من قبيل الحريات الفردية المرتبطة بالأشخاص المعنويين، والتي تحتاج من كل العقلاء، نفس الغيرة، والدفاع، الذي تناله منا الحريات الفردية المرتبطة بالأشخاص الذاتيين.

فالتدخل في اختيارات أحزاب، إسلامية أو عَلمانية، أصلت لقناعاتها الخاصة، وأسست عليها برامجها، ورؤاها الاستراتيجية القمينة، حسبها، بإحداث التغيير المنشود المُحَقِّق لانتظارات الشعب، لا يقل جُرما وانتهاكا مما يفعله التدخل السافر في حريات الأشخاص الذاتيين، بمنطق العلماني المتطرف الذي يدعو إلى تكسير كل الحواجز، والعقابيل الحائلة أمام انطلاق هذه الحرية، والتمكين لها بدون شرط ولا قيد، بما في ذلك تحريمات الدين، وتجريمات الشرع، أو بمنطق الإسلامي أو العلماني المعتدل، الذي يؤسس لحدودها المعقولة من الدين والقانون، و تواضعات المجتمع..

فرفضنا التدخل في الحرية الفردية المطلقة للأشخاص الذاتيين، يجب أن يكون أيضا سلوكا نسحبه على مختلف تعالقاتنا المجتمعية، والسياسية، والفكرية مع الأغيار؛ أحزابا، أو تنظيمات، أو تجمعات فكرية أو أيديولوجية مخالفة. إذ هذه القناعة المرتبطة بقيمة إنسانية، أو بالأحرى بما نتصوره ونعتقده حول هذه القيمة؛ صحيحا كان أوخطأ، لا يمكن أن يقبل لنا بحصر هذا الإيمان في زاوية ضيقة؛ فنؤمن بالحرية، وننافح دونها، حينما تخدم أجنداتنا، ونكفر بها حينما تعيق هذه الأجندات، وتخدم أجندات خصومنا.

فالهجومات التي تتوالى على أحزاب، وبرامج، ومذهبيات، وتتدخل في القناعات الخاصة بها، بالتأويل، والتخوين، والتي تصدر من على منابر الخطابة، والإعلام، ومن داخل الندوات، والصالونات، من نُصَّار الحريات الفردية المطلقة، لا يقل جرما مما تفعله أعتى الديكتاتوريات العسكرية في حق الحريات المقدسة التي تكلفها الشرائع السماوية، والقوانين الدولية.

فبنفس القدر الذي يحترم فيه من يخلطون الدين بالسياسة، من يسحبونه منها، على هؤلاء أن يحترموا لأولئك قناعاتهم التي يصدرون عنها، وأن يقدروا لهم “حريتهم الحزبية الفردية” كما يقدرون للأشخاص الذاتيين حرياتهم الفردية، حتى جعلوها قضيتهم الفكرية والسياسية الأولى؛ سواءً بسواء !.

دمتم على وطن.. !!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *