منتدى العمق

رهان التغيير بين ثنائية الألم والأمل

في أحايين كثيرة، قد تبدو لنا الحياة غير محفزة على العطاء، وقد يصل بنا الأمر إلى الشعور بالإحباط واليأس من كل شيء، فالعلاقات الإنسانية -مثلا- قد تبدو “روتينية”، ولا شيء جديد فيها أو مثير لكي نستمر في نسجها، وغالبا ما تدخل هذه العلاقات في نوع من الفتور، لنختار بعدها العزلة والتقوقع على الذات، والابتعاد عن كل شيء.

إن الشعور باليأس والإحباط والهزيمة ليس شعورا يصيب الذات البشرية بسبب عوامل خارجية فقط، بل هي مشاعر تولد نتيجة للاستسلام للواقع.. أيّ واقع يمكن أن يتصف بالصعوبة والتحديات الجمّة.

إن ثقافة الاستسلام والرضوخ لتحديات الواقع، ليست أمرا اعتباطيا، بل هي نِتاج عمل استراتيجي تحكمه خلفيات التنميط والتحكم في مصائر الشعوب واختياراتها، ليصبحوا محض آلات إستهلاكية أو أدوات تتحرك بحسب ما يُخطَط لها، ويصيروا أشبه بسفن وسط المحيط تميل مع كل موج. وهو الأمر الذي يعمل على ترسيخه جانب كبير من الإعلام، الذي يحارب تراثنا وهويتنا، ويعمل على تغييب أمجادنا وذاكرتنا وتاريخنا الغني، مساهِما بالمقابل، في ترسيخ أفكار الإستسلام والتذمر والدونية، وقراءة التاريخ من وجهة نظر الخصم الذي يسوق عنا صورة مشوهة، مِلؤها الهزيمة والتخلف والوحشية. وهو أمر غير صحيح بالمرة.

وإذا ما نظرنا إلى تاريخنا القريب جدا، سنجد أن ما نعيشه اليوم من مشاعر إحباط ويأس وقلة ثقة، هو نتيجة للصدمة التي تلقاها الشباب العربي، بعد موجة “الربيع العربي” التي شهدتها المنطقة العربية، والتي أوهمت الشعوب العربية، بإمكانية تحقيق التغيير المنشود بسهولة، وأن منظومات الفساد والاستبداد التي تم تشييدها على مدى عقود من الزمن، سوف تنتهي بمظاهرة هنا أو اعتصام هناك. حيث أظهرت الأحداث المتعاقبة مدى صعوبة تحقيق التغيير، ومدى استفحال مظاهر الفساد على جميع المستويات؛ بدءا بمؤسسات الدولة مرورا بباقي المؤسسات ووصولا إلى المجتمع ثم إلى منظومة قيم الفرد نفسه.

إن الشباب العربي والمسلم اليوم، باعتباره حامل مشعل المسقبل، أمام خيارين: أولهما، أن يستسلم للأمر الواقع، ويقبل بالهزيمة، تاركا الباب مفتوحا أمام كل من يريد كسح الهوية الوطنية والدينية للشعوب، وأمام كل المسفيدين من عمليات التغطية على الفساد. لنكون حينها مجرد أدوات تستعمل لتنفيذ سياسات وبرامج يتم تدويرها منذ عقود، لم تُفِد في شيء بقدر ما ساهمت في فرملة مسار الإصلاح والتغيير داخل مجتمعاتنا، لنصير في النهاية أمام “جنون” أو “مجون” نتيجة للإستبداد، كما قال المفكر الهندي- الباكستاني “محمد إقبال”.

الخيار الثاني: هو أن نبث الأمل في أنفسنا ونفوس الناس، وأن نرفع الهمم ونواجه التحديات، لكي نجعل لجيلنا أثرا في التاريخ الحضاري للإنسانية. لأنه عندما نطالع التاريخ عن الجهد الذي بذل -مثلا- للوصول إلى معلومة علمية واحدة، نجد بأن هناك عناء وتعبا ومشقة أُنفقت في البحث والتحليل والتجريب، لكي نتمكن نحن في الأخير من تحصيل قاعدة أو معلومة أو تقنية بسهولة بالغة ومن دون عناء.

إن جل من غيروا التاريخ، وتركوا بصماتهم وأثرهم فيه، كانوا في بداياتهم شبابا يحملون في صدورهم أحلاما، حققوها في الأخير من خلال صبرهم على الألم وتسلحهم بالأمل ثم العمل، وبجهود كهذه، وصلت الحضارة الإسلامية لعنان السماء، وسادت العالم بالعلم والحكمة والعطاء، وكان الفرد في حاضِرة كدمشق أو بغداد أو فاس، يُعتبر قدوة لحاضرات ومجتمعات أخرى.

لذلك، فمعركة البناء والحفاظ على الهوية، تستلزم من الشباب أولا المقاومة والوقوف أمام كل حملات التشويه والتزوير لتاريخنا وحضارتنا، مع السعي وراء استلهام قيم البذل والتضحية والفداء من أجل الإصلاح والتغيير الفكري والسياسي والاجتماعي، لأن المسؤولية هنا ليست مسؤولية شيوخ وصلوا إلى ما وصلوا إليه من جمود وتعب وقبول بواقع الحال، بل هي مسؤولية شباب حالم، وقادر على تسخير جهده ووقته للمساهمة في بناء وطنه وخدمة الإنسانية.

باختصار، لا خيار اليوم أمام هذا الجيل من الشباب العربي والمسلم، الذي كُتبت عليه رهانات التغيير والحرية والعدالة الاجتماعية، سوى المقاومة والتشبت بمقومات النهضة الحضارية من أجل إخراج الأمة جمعاء من ظلمات الجهل والتبعية، إلى نور التقدم والرقي وسمو القيم والمبادئ، فإما أن نكون أو نكون رغما عن أنف من لايريدنا أن نكون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *