منتدى العمق

التحرر المزعوم

تميز التاريخ البشري عبر عصوره الماضية إلى عصرنا الحالي بالتأثير والتأثر، وقد شملت هذه الثنائية كل مناحي الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، مما أفرز تراكمًا إنسانيًا ساهم في تطور المنجزات البشرية، حيث لا توجد أمة سلمت من هذه الثنائية، والأمة الإسلامية واحدة من تلك الكيانات التي مثلت حلقة مهمة من حلقات التاريخ البشري، أخذت من الأمم التي سبقتها، وقدمت لأمم التي عاصرتها، كما أسهمت في بناء حضارات بعدها، وسنحاول في هذا الصدد أن نبحث قليلًا في أحوال جزء يسير من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، الذي حددناه جغرافيا في شمال إفريقيا، وزمنيا في مرحلة ما قبل الفتح الإسلامي لهذا الصقع، والتطورات الثقافية التي حصلت نتيجة هذا الفتح.

كانت قبائل الأمازيغ في زمن ما قبل الفتوحات قبائل غازية للشعوب المجاورة والواقع أنه لم يكن بيت في شمال إفريقيا إلاّ فيه عبيد، على الأقل عبد وجارية، و كانوا يعيشون مع باقي أفراد الأسرة داخل المنزل الواحد، فجاءت الفتوحات العربية الإسلامية التي كان ينظر إليها على نطاق واسع على أنها قوات تحرير جاءت لتطرد البيزنطيين الذين كانوا يثقلون كاهل السكان بالضرائب، وموقفهم تجاه المعتقدات المحلية التي كانوا يعتبرونها حركات ضالة، والمفاجأة هي أن أول تواصل بين العرب والأمازيغ لم تكن بالقتال والحرب، حيث لم يحاول عمرو بن العاص أن يبدأهم بالقتال، بل إن قبائل الأمازيغ غير الخاضعين للسيطرة البيزنطية في النصف الشرقي من ليبيا والذين كانوا يكرهون البيزنطيين و يحقدون عليهم أشد الحقد بسبب القمع الذي تعرضوا له من قبل قادتها، قد رحبوا بقدوم المسلمين وعقدوا معهم معاهدة سلام وصلح، ووافقوا على دفع ضريبة معينة بشكل سنوي أو الاستعاضة بذلك عن طريق بيع ما لديهم من عبيد إلى العرب، حيث كان الأمازيغ في ذلك الوقت أكبر تجار العبيد في شمال إفريقيا هذا، وتتفق كل المصادر التاريخية على أن فتح “بْرْقَة” كان صلحاً وليس عُـنوة، حيث لم نسمع بمصدر تاريخي موثوق يقول بأن “ْبْرْقَة” فتحت بالقتال.

كان هناك الكثير من الأمازيغ الذين ساعدوا العرب أثناء تقدّمهم ضد قوات البيزنطيين، فمثلاً، كانت عندما وصل المسلمون إلى “تونس” لم يقاتلوا الأمازيغ بل قاتلوا الوالي البيزنطي عليها، أما الأمازيغ الذين كانوا يسكونها فقد عرض الكثير منهم بالتسليم والطاعة للمسلمين بدون أي قتال كما حدث في “قرطاجة”، أما “سُوسة” فقد قام أهلها من الأمازيغ بفتح بواباتها أمام المسلمين وتسليمها لهم بدون قتال بعد أن هرب منها الرّوم. وحتى في “الجزائر”، قابل المسلمون بقيادة “عقبة بن نافع” مقاومة عنيفة من قبل الرّوم ومعهم بعض الأمازيغ، بينما في نفس الوقت أتت الكثير من القبائل الأمازيغية إلى معسكر المسلمين طوعاً وانضموا إليهم بدون قتال، بل وأصبح الكثير منهم يقاتلون في صف المسلمين ضد البيزنطيين ومن حالفهم من الأمازيغ، أما الأمازيغ الذين كانوا يقاتلون في صف البيزنطيين، فحتى بعد هزيمتهم قام “عقبة” بمسامحتهم على ذلك ولم يعاقبهم، بل قبل منهم الاستسلام و ضمّهم إليه.

ونرى في أكثر من موضع أن المدن التي لقي فيها المسلمون مقاومة لم تكن أمازيغية صِرفة، بل كانت تحت سيطرة البيزنطيين بشكل أو بآخر.

ولكن السبب الحقيقي لانشقاق “كِسْيلة” عن عقبة كان سياسياً صرفاً، حيث يذكر المؤرخون أن “عُقبة” لم يكن يعامله على أنه ملك أو زعيم، بل كان يعامله كما يعامل باقي القادة المسلمين، مما خلق في داخله شعوراً بالاحتقار لأنه رأى أن هذا استخفاف به وبمكانته، فقرر أن ينقلب على “عقبة” ويستولي هو على البلاد بدلاً منه. وقد صدرت منه الخيانة بسبب هذا، وأعلم البيزنطيين بتحركاته حتى يضمن انشغال المسلمين بمقاتلتهم بدلاً من أن يواجههم لوحده.

زد على هذا أن هناك من المسلمين ممن لم يقاتل “كِسْيلة” ولم يرضى بقتاله لأنه كان في نظرهم مسلماً وبالتالي لا يجوز بدءه بالقتال، و حتى بعد انتصار هذا الآخر و من معه، فقد انقلب هو و أتباعه على بعضهم البعض و تفرقوا إلى أحزاب متصارعة، مما مهد لرجوع المسلمين مرة أخرى. و بهذا نرى أن الحرب التي وقعت بين كِسْيلة وغيرهم لم تكن حرباً تحررية أو حركة مقاومة قومية، بل كانت مجرد صراع سياسي هدفه الوصول إلى الكرسي. هناك الكثير من الأسباب الرئيسية التي تجعلنا لا نميل إلى تصديق هذه الخرافة، حيث أن الحقائق التالية تظهر لنا عكس ذلك بالضبط:

أولاً، آن الكاهنة لم تكن لا قائدة قومية ولا غيره، بل كانت امرأة يهودية من قبيلة أمازيغية تدين بالديانة اليهودية.

ثانياً، لم تكن ثورتها حركة مقاومة، بل كانت فقط حركة ثأر قبلي هدفه الثأر لكِسْيلة الذي قُتل في أحد المعارك ضد المسلمين، و قد كان خطابها الأساسي مركزاً على الثأر لدم كِسْيلة و ليس على التحرر المزعوم.

ثالثاً، لو كانت حركة الكاهنة فعلاً حركة تحررية قومية، لما كانت تعمل تحت إمرة الاحتلال البيزنطي وتمهد له احتلال البلاد من جديد، حيث أنها حاربت المسلمين أثناء محاربتهم للبيزنطيين، وبعد نجاح تمردها قام البيزنطيون فوراً بالرجوع إلى شمال إفريقيا وسيطروا على قرطاجة.

رابعاً، أن قوات الكاهنة كان في صفوفها الكثير من اليونانيين / الإغريق، فإذا كانت حركة تحرر أمازيغية صِرفة، فما دخل الإغريق بها ولماذا كانوا مشاركين فيها؟

خامساً، حقيقة انضمام الآلاف من الأمازيغ إلى صفوف جيوش المسلمين في حربهم ضد الكاهنة، حيث كان هناك الكثير من الأمازيغ الذين يكرهون الكاهنة وذهبوا إلى العرب وطلبوا منهم أن يأتوا ويُحرروهم من قبضتها وجبروتها. الكاهنة هي التي أصدرت أوامرها إلى الأمازيغ بتدمير كل مدن شمال إفريقيا بالكامل حتى لا يستفيد منها المسلمون، وكما قام الأمازيغ بتدمير المدن والقرى، أما المعادن الثمينة وكل ما لا يمكن تدميره وله قيمة فإنهم حملوه معهم إلى حصونهم في الجبال، من طرابلس وحتى طنجة، عانت كل المدن والقرى من آثار هذا التدمير. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل قامت أيضاً بحرق كل المحاصيل، والمزارع والبساتين وحولتها إلى رماد، مما أثار غضب الكثير من الأمازيغ الذين كانوا يرفضون دعمها أو الوقوف إلى جانبها، وتسببت أفعالها في جعل الكثير من الأمازيغ (حتى من أتباعها) يهجرونها ويهربون منها و من استبدادها.

ويكفينا أن نعرف أن أما زيغ المناطق الداخلية (الجنوب الغربي للجزائر وبلاد المغرب) التي لم تصلها الفتوحات كانوا على دين الإسلام حتى قبل أن يطأ أراضيهم جندي عربي واحد، حيث أن القوات العربية لم تتجاوز حدود المناطق التي كان يسيطر عليها الرّوم البيزنطيون في الشمال، ولم تتوغل فيها إلى الداخل، ومع هذا فقد كان الأمازيغ في تلك الأراضي معتنقين لمبادئ الدين الإسلامي، وإن كانت الممارسات الدينية الإسلامية غير منتشرة فيما بينهم، حيث أنه لم يكن هناك مسلمون عرب في مناطقهم ليفقهوهم بالدين.

وقد لعب الإسلام والعربية بدخولهما إلى هذه المنطقة دورًا أساسيًا في الدفع بعجلة التطور والتحول الثقافي، والاقتصادي؛ لما كان يمثله هذا الدين من قيم إنسانية جليلة تمثلت في تحرير الإنسان في شمال القارة من عبودية البيزنطيين، والرومان. ومن خلال ما ذكرناه يتضح جليًا أن الفتح الإسلامي جاء نتيجة رغبة ملحة من الناس في المنطلقة حيث عانوا الويلات، فكان الإسلام بهم رحيماً.
………………………………………………………………………………

المصادر و المراجع:
=============
[1] – ابن خلدون، ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر (دار الفكر – 2000)، الجزء السادس، ص: 140.
[2] – محمد محيي الدين المشرفي، إفريقيا الشمالية في العصر القديم، (دار الكتب العربية)، ص:150.
[3] – المشرفي، المصدر السابق، صـ153-156
عبد العزيز الثعالبي، تاريخ شمال إفريقيا من الفتح الإسلامي إلى نهاية الدولة الأغلبية، ص: .29
.
[4] – الثعالبي، المصدر السابق، ص38-39
.
[5] – الثعالبي، المصدر السابق، صـ51-52
.
[6] – ابن الأثير، الكامل في التاريخ (دار الكتاب العربي – 1997)، الجزء الثالث، صـ207
. [7] – ابن الأثير، المصدر السابق، صـ208-209
.
[8] – الثعالبي، المصدر السابق، صـ 56
.
[9] – الثعالبي، المصدر السابق، صـ61
.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • غير معروف
    منذ 4 سنوات

    فقط أسألك ماذا عن السبايا ؟؟؟؟