وجهة نظر

حفريات سياسية في زمن التناوب

كثيرا ما شكلت مرحلة ما تواثرت أدبيات الصحافة على تسميته ب” التناوب التوافقي”، موضوعا للدراسة والبحث والتناول الاعلامي ما بين الفترة المتراوحة من 1998 و2002 سنة تعيين وزيرا أول من ” التكنوقراط” عوض قائد الحزب الذى تصدر الانتخابات التشريعية آنذاك.

وهكذا، عرفت المشاورات بين المؤسسة الملكية و”الكتلة الوطنية” وبعدها “الكتلة الديمقراطية” في بداية التسعينات جمودا نسبيا، إلي حين إعلان الراحل الحسن الثاني بمناسبة ذكرى (20 غشت) 1995، العزم على مراجعة الدستور في أفق إحداث برلمان بغرفتين، وهي خطوة وصفت بأنها كانت تهدف إلى “تقزيم دور الكتلة الديمقراطية في الحياة السياسية، عبر فرملة العمل التشريعي وإحداث صمام أمان تنظيمي، يحمى من كل الإنزلاقات التي قد تؤدى إلى فوز مكونات الكتلة بأغلبية ساحقة في مجلس النواب “.

الا أن مؤشرات أولية لقيام “التناوب التوافقي” ظهرت بعد انتخاب عبد الواحد الراضي كأول رئيس لمجلس النواب من صفوف المعارضة، وتكليف إدريس البصري الوزير القوي بإيجاد سبيل للتوافق مع “الكتلة الديمقراطية” بما يخدم العملية الإنتخابية، وهي المشاورات التي طالت لما يقارب السنة، وصولا إلى الإنتخابات التشريعية التي جرت في 14 نونبر 1997 وأسفرت نتائجها عن برلمان “حكومة التناوب التوافقي” (الولاية التشريعية السادسة ما بين 1998-2002).

وبلغ الإنتقال الديمقراطي ذروته في حكومة التناوب التوافقي، التي أوصلت الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية إلى السلطة، بعد أربعة عقود من المعارضة، وتاريخ طويل من الصراع مع النظام وآلياته في التدبير السياسي، باعتبار أن ” بناء الديمقراطية كتعبيد الطريق، إنك حين تفتح طريقا، تتيح التواصل بين الناس، وكذلك الأمر حين توجد مؤسسات ديمقراطية مسلم بها، فإنها تكون أداة حوار وتبادل بل تضامن” حسب ما دبجه الراحل محمد العربي المساري في مؤلفه ” صباح الخير.. للديمقراطية، للغد”.

وفي هذا السياق اعتبر تعيين أول حكومة للتناوب، “لحظة تاريخية هامة” في المسلسل الإصلاحي الذي تمت مباشرته منذ سنة 1992، باعتبار ذلك صيرورة تاريخية، بدأت منذ ما يزيد عن قرن ونصف من الزمن منها دستور 1908، ودفتر المطالب الإصلاحية سنة 1934، قبل تقديم وثيقة المطالبة بالإستقلال سنة 1944، مرورا بتجربة المجلس الوطني الاستشاري سنة 1957، وظهير الحريات العامة في 1958 والانتخابات المحلية سنة 1960 ودستور 1962.

وكان الراحل الحسن الثاني قد أعرب في خطاب العرش لسنة 1998 عن رغبته في تحقيق التناوب السياسي الذي يفتح التباري أمام جميع التيارات للتنافس على قيادة الحكومة لتجديد صرح الديمقراطية. إلا أن التناوب في نظر البعض يعود أيضا إلى المبادرات التي قامت بها القوى الديمقراطية منذ بداية الثمانينيات، بدءا بالكونفدرالية الديمقراطية للشغل، وقبلها سنة 1976 حزب التقدم والإشتراكية الذي كان قد دعا إلى ما أسماه ب”المساومة التاريخية “، و”برنامج الإنقاذ” الذى اقترحه الإتحاد الأشتراكي، ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي، والكونفدرالية الديمقراطية للشغل للبحث عن تسوية سياسية واقتصادية واجتماعية.

كما ساهم في هذه الصيرورة التاريخية التي كانت تهدف إلى تكسير الحاجز النفسي بين الطرفين، انضمام عبد الرحيم بوعبيد وعبد الواحد الراضي للحكومة، بسبب تطورات قضية الصحراء، فضلا عن المذكرة التى رفعها سنة 1992 حزب الإستقلال والإتحاد الإشتراكي إلى الحسن الثاني، حول رؤيتهم للإصلاحات الدستورية والسياسية. إلا أن هذا التحول- حسب البعض – لم يتجاوز تقاسم السلطة، ولم يذهب إلى الملكية البرلمانية، وظل التواصل بين النظام والحركة الوطنية “حبيس جس النبض”.

وفي انتخابات رابع فبراير 1998، احتل الإتحاد الإشتراكي المرتبة الأولي، وقبل في شخص كاتبه الأول، الوزارة الأولى ووافق أيضا على تعيين إدريس البصري وزيرا للداخلية، والاحتفاظ ب”وزارات السيادة” ضمن الجهاز التنفيذي، الذي ضم سبع هيئات سياسية . ووصفت عملية تكليف اليوسفي هاته بأنها ” صفقة تفاهم سياسي مبني على الثقة، أكثر منه تعاقد مسطر”. كما اعتبرت”مؤشرا على تقارب مكونات الحقل السياسي”. في حين رأى البعض أن إحداث الغرفة الثانية للبرلمان يشكل ” آلية للتحكم في المشهد السياسي”.

ورغم ذلك بعث تعيين اليوسفي “الكثير من الأمل والتفاؤل” بالداخل والخارج، ووصفت لحظة تنصيب الحكومة الجديدة، ب” اليوم التاريخي” و”منعطفا في الحياة السياسية”،على الرغم من أن “الكتلة الديمقراطية ” لم تحصل على الأغلبية في الانتخابات التشريعية. لكن الإتحاد الإشتراكي، شكل الحزب الأول وفق إرادة الناخبين، وهو ماجعل كاتبه الأول يقود مشاورات سياسية واسعة وطويلة، أسفرت عن تكوين حكومة ائتلافية من سبعة أحزاب ومدعمة من حزبين ممثلين في البرلمان.

كما أن أحزاب المعارضة في “الكتلة الديمقراطية ” لم تتمكن من الحصول على الأغلبية التي ليست في الواقع ” لعبة تجميع رقمي “، بل هي عملية تقتضى إنبثاق أساس مشترك، يتمثل في وحدة البرنامج وإنسجام التركيبة والرؤية الاجمالية للأشياء، مما جعل محمد الساسي في كتابه ” دفاتر سياسية”، يتساءل” كيف تكون إحدى أسبقيات برنامج التناوب، هو التخليق مع وجود أطراف بالجكومة تتهمها الأحزاب الديمقراطية، بالتهرب الضريبي والغش الإنتخابي والفساد الإداري”. غير أن ما ترتب عن حدث مشاركة أحزاب “الكتلة الديمقراطية” في الحكومة، بفعل ما أحدثه من رجة في المشهد السياسي، “نتائج عديدة ساهمت في تطوير نظرة الفاعلين لمشروع الإصلاح وبرنامجه”. كما يعتبر كمال عبد اللطيف في كتابه ” الاصلاح السياسي في المغرب، التحديث الممكن ، التحديث الصعب “).

لقد كانت مهمة الحكومة منذ البداية، تغيير التسيير الحكومي، وإرساء قواعد جديدة لتأهيل الوطن والمواطن، حتي تتمكن من الشروع في الإنتقال بخطوات ثابتة نحو المستقبل، مما كان يتطلب بلورة مرجعية ثقافية جديدة للعمل الحكومي، تكون متشبعة بقيم الحوار والتشاور والشفافية والنزاهة وحسن التدبير فضلا عن محاولة بناء ديمقراطية تتلائم مع ظروف المغرب، ” مما جعل الحركة التقدمية والديمقراطية، تتبنى خيار المشاركة التي ستكون لها ايجابيات، وسيمكن من دفع الأمور في اتجاه مغاير، على صعيد تكريس دولة الحق والقانون، ودمقرطة العلاقات بين الحاكمين والمحكومين، كما يرى محمد اليازغي في كتاب “البديل الديمقراطي”.

وفي مقابل حكومة التناوب، لم تكن هناك بدائل سياسية معارضة، تستطيع أن تعيد للمجال السياسي التوازن الضروري فيه، وهو ما استغلته صحف فتية جعلت الفعل الصحفي بعد سنة 1998، فعلا سياسيا في حد ذاته، وأصبح التدخل الصحفي تارة يأخذ طابعا أكاديميا، ومرات أخرى يصبح الصحفي استراتيجي أو منشط ثقافي، فمناضل متعدد الابعاد، والوسيط في النزاعات ذات الطبيعة المختلفة، كما أكد عبد الله ساعف في مؤلف “الاعلام ، السياسة والخطوط الحمراء”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *