وجهة نظر

فرنسا التي تردينا كما تشتهي هي.. !

خطوة واحدة لن تعبد طريقا على الأرض، كما أن فكرة واحدة لن تغير شيئا في العقل، تتابع الخطوات ستعبد الطريق كما أن الكثير من التفكير سيصنع المستحيل الذي سيغير حياتنا. -ـهنري ديفيد ثوروـ

هل فكرتم يوما في سؤال يشكل قلقا مستمرا وهاجسا مروعا ينكأ الجراحات ويعمقها : ماذا تريد فرنسا من المغرب؟

ليس هناك مجالا للمقايضة، إما أننا نتوهم ثقل السؤال وراهنتيه الحاسمة، نتحايل على أنفسنا لأجل ألا نثير النقع على أرض ملساء، مخافة السقوط في حقائق لا نعلم عنها شيئا، سوى أننا نسمع بعضا من شظاياها، دون معرفة ما تحمله من شؤم الطالع وحداد الزمن! أو أن السؤال المعني هو جزء من ركام صاعق من تاريخ أسود، وثائقه لاتزال ملفوفة بين أدراج مخابرات البلدين (المستعمر والمستعمر)!

لكن دعونا نلقي الحجارة في الحديث الراكد بين جسرين متناثرين، أحدهما يفصح ولا يفضح، يداعب؛ يهمس ولا يستدل. والآخر يرمز ويتجاهر بالتبعية، على سبيل الاسترضاء والتقرب، يدنو ويخفض الجناح من التذلل، ويميل كل الميل، معلقا بين السماء والأرض.

ليس غريبا أن يصف دبلوماسي فرنسي، وهو سفير فرنسا بواشنطن جيرار آرو، على عهد الرئيس الفرنسي السابق هولاند، مستعمرته السابقة المغرب، حاشاكم، ( المغرب مثل العشيقة التي ننام معها وليس بالضرورة مغرمين بها ولكن يجب الدفاع عنها).فالعقل السياسي الفرنسي ظل يومئ بهكذا استعلاء وتشفي منذ ما يقرب المائة سنة، إذا ما حصرنا فترة الحماية وزدنا عليها مرحلة ما بعد الاستعمار، وحتى الآن!

عقل ميكيافيلي متناغم مع مرجعيته الكولونيالية التي حولت أفريقيا وبعض دول الشرق أوسط إلى منجم لاسترقاق الشعوب واضطهادها، ونهب ثرواتها، وإبقائها أبديا تحت مظلة نفوذها السياسي والإمبريالي.

وهو ما يترجم حقيقة تصاعد الخلافات السياسية الخاصة بمنهجية تدبير ملفات من حجم كبير، في مجالات عديدة، أنتجتها ماكينة الاستعمار وأذيالها، انطلاقا من مشكلات الحدود المفتعلة، ومرورا بالاقتصاديات العولمية وحروب السيبرانية وتحولات عصر الرقمنة وأسواق الأسلحة الحربية المتطورة …إلخ.

أمران على الأقل لا يخفيان على أحد من المغاربة، تتدلس الماما فرنسا من الحفر بين ثناياها، وتشاغب بطرق ثعلبية حقيرة، لأجل تعديل جلسات الصمت الديبلوماسية عندما تدلقه نقاشات الشارع والرأي العام المغربي. الأمر الأول استمرار مسخ الهوية المغربية، لغويا وثقافيا. وقد صار فيه نقاش طويل بين مكونات المجتمع المغربي، العربي والأمازيغي على وجه الخصوص. ولا حاجة إلى إعادة ملء الجرار والحبو على القفا. فالفريق الثالث الذي يصب الزيت في النار، ويشعل فتنة التربص بالفاعلين الأساسيين في قضية الخلاف اللغوي الهوياتي والثقافي، يتدخل في الوقت غير المناسب، للدفاع عن مصالح اللوبيات الفرانكوفونية، بإيعاز من الماما فرنسا، التي لا ترضى بغير “دسترة الفرنسية لغة عظمى في مناهج ومنظومات التعليم العرجاء التي خلفتها فرنسا الاستعمارية في المغرب”.

الأمر الثاني هو مرتبط بالمصالح الاستراتيجية والسياسية للوجود الفرنسي على أرض قرارات المغرب الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي والتنموي عامة.

وهذا الشق من قضيتنا يثير العديد من الأسئلة الفكرية والسياسية الراهنية، من قبيل مطالبة كل المغاربة، نخبا وقاعدة، الكشف عن اتفاقية ما بعد خروج القوات الاستعمارية الفرنسية من المغرب؟

مع العلم أن تسريبات لا ترقى إلى مستوى الحقيقة كاملة، لا تزال ضمن البروبجندا المروجة، التي تصدمنا بوابل من الامتيازات والتفويضات غير المحصورة لفرنسا ، ترقى لمستوى النهب وتكريس الشراهة الاقتصادية والتفويت الملتبس لعديد مشاريع عملاقة في مجالات متعددة.

وإن كان الأمر يحتاج إلى تعميق ووضوح، فالبرامج التنموية التي تبرز من حين لآخر، لا بد وأن يكون لفرنسا يد فيها، مهما علا صوت الحكمة وقاربت سياستها بداهة التنويع والعمل الشفاف.

ولإن كان ذلك جزءا من حقيقة نصف الكاس المملوء، فإن أحداثا ووقائع لا يمكن تكذيبها تفصح عن هذا الارتباط الغريب والملتبس بين فرنسا والمغرب.

مثال أول، ما سبق وكشفت عنه تقارير إعلامية بفرنسا أن الأخيرة غاضبة من دخول الصين على خط صفقة القطار الذي سيربط مدينتي مراكش وأكادير.

وكانت قد طفت إلى السطح هذه الغضبة الفرنسية على المغرب، من خلال تصريح وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير، بخصوص الاستثمارات الفرنسية في السيارات خارج البلاد. حيث صرح في لقاء مع مهني السيارات الفرنسيين، إن صناعة أكثر السيارات مبيعاً بفرنسا وهي بوجو 208 ورونو كليو خارج فرنسا. مضيفا بالقول: ” لست راضيا و لا مقتنع بنموذج اقتصادي يجعلنا نصنع ونجمع سيارة بوجو 208 بالمغرب و سلوفاكيا و سيارة رونو كليو بتركيا مع العلم أنهما تتصدران لائحة السيارات الأكثر مبيعا في فرنسا”، مضيفا أن ” هذا النموذج الاستثماري بمثابة فشل و إخفاق لفرنسا”.

وقتها أعطيت التعليمات لرئيس الحكومة سعد الدين العثماني للطيران إلى فرنسا لأجل إطفاء غضبها!

المثال الثاني، وهو الأكثر نفوذا وتغلغلا، وهو التعاون الثقافي والعلمي والتقني، الذي يعيق المغرب، على جميع المستويات، انطلاقا من إيجاد موقع داخل البنية الاقتصادية العالمية التي أصبحت تراهن على النموذج التنموي الأنجلو اكسوني المتطور والحركي، وانتهاء بالمقاربة الدولية للبدائل الاقتصادية والتنموية التي تحضى بحضور قوي وتصاعد ملفت، والتي تتخذ من اللغة التعليمية التعلمية مجسا لتأهيل علومها وتفوق كفاءاتها وترقي جامعاتها.

ولكي نلقي نظرة سريعة على مستوى ارتباط المغرب بما تم التطرق إليه، علينا أن نفك شيفرة هذه المغامرة القاسية التي نحن اليوم بأمس الحاجة إلى تفكيك عناوينها الكبرى:

هناك تعاون تاريخي وثيق جدا بين المغرب وفرنسا في إطار الأولويات التي حدّدتها اللجنة المشتركة بين الوزارات المعنية بالتعاون الدولي والتنمية، والتوجهات التي وُضعت في خلال اللقاءات الرفيعة المستوى لرؤساء الوزراء. وأُبرمت اتفاقية الشراكة للتعاون الثقافي والتنمية في 25 يوليو 2003 بين رئيسي الوزراء ودخلت حيّز النفاذ في مارس ٢٠١٠.

وفي مجال التعليم، تستقبل المدارس الفرنسية التسع والثلاثون في المغرب (ومن بينها 23 مدرسة تابعة لوكالة التعليم الفرنسي في الخارج) 39 ألف تلميذ، ويمثّل المغاربة أكثر من 66 في المائة من بينهم. ويضم المعهد الفرنسي في المغرب اثني عشر فرعًا (في أكادير والدار البيضاء وفاس ومراكش ومكناس ووجدة والرباط والقنيطرة وطنجة وتطوان والجديدة والصويرة)، ومركزًا للأليانس فرانسيز (في أسفي)، ومكتبًا لكامبوس فرانس ملحقًا بالمعهد الفرنسي في الرباط، مما يكفل حضورًا فرنسيًا فاعلًا وملحوظًا في المغرب. ويمثل الطلاب المغربيون البالغ عددهم 38 ألف طالب الشريحة الأكبر من بين الطلاب الأجانب في فرنسا.

ومهدّت زيارة الدولة التي جرت في أبريل 2013 الطريق لإبرام اتفاقات شراكة جديدة بين مؤسسات التعليم العالي الفرنسية والمغربية.

وتتمثّل أبرز هذه المشاريع في إنشاء المعهد الوطني الأورومتوسطي للعلوم التكنولوجية في فاس، الذي أسنِدت إدارته إلى الجامعة الأورومتوسطية في فاس، التي أقيمت في ظل الاتحاد من أجل المتوسط. وتشمل المشاريع الأخرى كلية الهندسة المعمارية في الجامعة الدولية للرباط، التي استقبلت الفوج الأول من الطلاب في تشرين الأول/أكتوبر 2013، والتي أنشئت بالشراكة مع مدرسة الهندسة المعمارية في نانسي وجامعة باريس إيست، والمدرسة المركزية في الدار البيضاء، والمعهد المتخصص في مهن النقل الطرقي واللوجستيك في طنجة بالشراكة مع جامعة فالينسيين والمعهد الوطني دي بون إي شوسي، والفرع الدولي في المعهد التكنولوجي، وكلية الطب في جامعة أغادير، والمؤسسة المماثلة للمعهد الوطني للفنون والحرف الفرنسي. ويعبّر افتتاح حرم المدرسة العليا للعلوم الاقتصادية والتجارية (إيسيك) لأفريقيا ومنطقة المحيط الأطلسي في الرباط عن الفرص التي توفرها المغرب في المجالين الأكاديمي والتجاري.

وتحظى اللغة الفرنسية بمرتبة اللغة الثانية الفعلية في المغرب. ويرمي دعمنا لتعليم اللغة الفرنسية، الذي يعطي الأولوية إلى تدريب المدربّين وافتتاح الفروع الدولية في مؤسسات التعليم، إلى تعزيز هذا الموقع الخاص باللغة الفرنسيي.

وللتأكيد على تشابك كل ما ذكرناه سابقا، فإن المغرب يعد المستفيد الأول من مساعدات الوكالة الفرنسية للتنمية، إذ بلغت قيمة الدفعات الإجمالية 1,5 مليار يورو لفترة 2013-2017. وتعمل الوكالة الفرنسية للتنمية الناشطة في المغرب منذ عام 1991 عبر وكالتها الفرعية “بروباركو” المخصصة لتمويل القطاع الخاص، ومركز الدراسات المالية والاقتصادية والمصرفية القائم في مارسيليا، والصندوق الفرنسي للبيئة العالمية الذي تتولى الوكالة الفرنسية للتنمية أمانة سرّه. وتتركز مشاريع الوكالة الفرنسية للتنمية في قطاعات المياه والبيئة والبنى التحتية الاجتماعية الاقتصادية. وتحرص الوكالة على دعم القطاع الخاص، ولا سيّما عبر المساعدة في تحديث المنشآت الصغيرة والمتوسطة الحجم والمنشآت الصغيرة جدًا.

في كلمة واحدة، إن الشعور بالارتياب من واقع ارتباطنا بفرنسا، هو قيمة اعتبارية لكل مغربي، يفضل أن يكون بلده ذي شخصية مستقلة، صاحب قراره، ممتلكا لأحقيته في أن يعيش كريما وبكامل حريته، يختار هويته ومرجعيته الثقافية والهوياتية بكامل إرادته، مرتقيا إلى أعلى قمم التحضر والتمدن بين كل دول العالم. لديه ما يكفيه من العيش بسلام، وله من القدرات ما يستطيع به فتح السماوات والأرض، بسلطان علمائه وعقول أكاديمييه، وتضحيات شبابه ونسائه.

لا حاجة لنا لا لفرنسا ولا لغيرها كي نكون كما نريد نحن، وليس غيرنا.
فالمعلومات المتوفرة والعقل الذي يصنع القرار هما الدليلان الأصيلان للاستقلال والاستقرار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *