منتدى العمق

غنيمة أيوب

ليست جدارية بكائيات عقيمة انكأ بها جرحا ناتئا بقلوب محبيه، بل أبتغي بها ومنها أن أحيا محنة فقد أيوب بوغضن منحة، درسا مستفادا، مغنما مستلهما من سيرة شاب رباني فتح الله على قلبه فحق لنا أن نفخر به حيا وميتا. لذا فلم أكد أجد من نفسي فسحة زمن وفضل قوة حتى وجدتني أنسل من فراشي صبيحة عطلتي الأسبوعية – الأحد- أحاذر الخطو مخافة إيقاظ طفلي الصغير. وجدتني أقطع مسافة مائة وعشرة كيلومترات تفصلنا عن بلدتي أولاد تايمة والوجهة تزنيت وسؤال مؤرق لم تسعفني نباهتي في الإجابة عليه: ما سرك ايوب بوغضن؟ كيف خصك الله بعلو ذكر ورفعة شأن على حداثة سنك؟

صباح قائظ كأن شمس فبراير تسلمنا أيلولا جاء بلا موعد.صرت أطوي الطريق طيا لا تصاحبني إلا قناة محمد السادس. على الأثير، ترانيم وأذكار زادت من قداسة زيارتي. اخضرار باهت يغطي جنبات الطريق، جبال جرداء، أشجار يابسة تنعي مطرا غائبا. وحدها فقط عجلات سيارتي تلتهم الطريق بشهية مفتوحة. تستقبلني أسوار تزنيت بنية طينية تعلوها شقوق تكرس سلطة الفصول المتعاقبة وبصمتها. يتناهى الى مسامعي صوت احدى الأجنبيات في سروال أزرق قصير تقطع الطريق مع كلبتها. تنتشي الاثنتان بأشعة الشمس الساطعة فقد لا تصادفان مثل هذا الطقس بقارتهما هذا الشتاء.

ماكان بيت أيوب بالصعب الايجاد، فلاتزال خيام العزاء البيضاء المقببة منصوبة أمامه. تنتابني رهبة، كيف ألقى الوالدين المكلومين؟ سرى في عروقي تيار هواء بارد، قد لايتسع المجال لعواطف غير مضبوطة. تمنيت لحظتها لو أغطي ملامح التأثر على وجهي.

ولجت البيت لتصحبني إحدى القريبات إلى الطابق العلوي حيث مجلس النساء. أسرة أمازيغية أصيلة، توزعت النساء الأكبر سنا في كل ركن من غرفة الاستقبال. يواسين الأم الشابة حينا ويتجاذبن أطراف الحديث حينا آخر وقد لففن على رؤوسهن الحيك البيضاءالمطرزة باللون الأخضر تغطي النصف العلوي من أجسادهن يرسمن بوقارهن وحشمتهن صورة جميلة عن أصولهن الأمازيغية بحليهن التقليدية لاتكاد العين تخطئ حفاوتهن واعتيادهن قدوم الغريبات والغرباء من مدن شتى لتقديم واجب العزاء.

في هذا المحضن نشأ أيوب، شابا فطنا، ورعا، متدينا، مترفعا عما قد ينغمس فيه أقرانه من مغريات سنهم من لهو وحب سفر…

كلمتني والدته باسهاب عن نهمه بالكتاب فطلبت منها – وأنا المسكونة بسؤال سر تفوقه-سيدتي،قد قطعت الطريق كلها إليك لعزائك وليس لي إلا طلب واحد إذا سمحت…قاطعتني دمعتين حارتين انسلتا قهرا ففشلت في اخفائهما: أريد أن أرى غرفة أيوب؟ حسبت أني قد أجد أثرا من تفوق الفتى العشريني. أجابتني عمته الجالسة بجانبي: غرفته هناك، بالرباط، لاتحتوي إلا على سرير،منضدة وخزانة كتب. أخبرتني والدته أنه كون مكتبته مما يتحصل عليه من مال خاص فالفتى مدمن كتب ومطالعة كان يشجعها على القراءة : ” *إذا اعتدت القراءة ستظيفين حياة أخرى الى حياتك*. ابتسمت دامعة لتستطرد : *كلما زرته بالرباط إلا وكان حريصا على ارجاع الكتب التي إستعارها سابقا من مكتبة والده معي ولو كانت قصة صغيرة*.

عاش يقدس الكتاب وفي أسرة تقدس الكتاب أيضا. الآن فقط بدأت تتبين ملامح سرك أيوب. ما التمر الحلو إلا من طيب الشجر. أدركت أنني وسط أسرة يقدسون الكتاب ويرونه ملكا شخصيا. أدركت أن التفوق الأول أصله الأسرة تدينا وصلاحا. ودعتهم جميعا وعدت مولية أدراجي يزداد يقيني بما أسماه الشاب الألمعي : *القراءة بسم الله* . كنت أقلب صفحات مذاخلاته -فلم يسبق لي أن التقيت الشاب في درس أو ندوة – فانثالت علي معانيه، أفكاره وحكمه، مقاله الأخير *يخرج الحي من الميت* فيه التفاتات لطيفة الى آيات عظام. كيف لا؟ والرجل لم يفته أن يحيي في اكبار ثورة ووعي المدرجات الرياضية التي أريد لصناعة فكرة كرة القدم إلهاء الشباب واستنساخ ظاهرة الهوليكنغ الأوروبية(شغب الملاعب) وإذا بها تجمعهم لا تشتتهم، تسلمهم الى وعي أرقى، الى معاني الحرية، الكرامة، نبذ الاستعباد، توزيع الثروة والسلطة، القضية الفلسطينية….

مات أيوب بوغضن وقد سرت عليه السنة الكونية في حتمية الموت لكنه أحيى أجنحة في المجتمع في عيوننا لنلتفت إلى كم الخيرية والإنسانية فيها. انتصر أيوب للغة الجديدة لشباب المدرجات الرياضية معملا مجهر فكره منفتحا ومادا لا قاطعا لجسور التواصل معهم.

هذه غنيمة أيوب بوغضن مختصرة، اختزلتها من وحي اللحظة في فكرة أو فكرتين. القراءة ليست سعيا للمعرفة فقط على أهميته، لكنها القراءة بسم الله المتصلة بجلال خالقها المخلدة لمعانيه على الأرض. القراءة سفر فكري ونفسي تؤثته المعاني والأفكار.

مارس أيوب بوغضن الحياة على قصر عمره، منتبها ومنبها لتفاصيل صغيرة رآها آيات الإستخلاف في الأرض.

حق لك أخي أن ترقد في سلام وقد أديت رسالتك واضحة المعاني، وميض بريق ذكرك لا يتسع إلا لكلمة واحدة: *القراءة*.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *