وجهة نظر

أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.. سيدة نساء العالمين

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آل بيته وأزوجِه الطيّبين الطاهرين.

إنه لمن دواعي الشرف، ومن بواعث السّرور، أن يوفق الله المرء لمُدارسة سيرة النبي المصطفى الأمين، والرسول المحبوب المجتبى عليه السلام، فهو المبعوث ليكون قدوة للعالمين، وأسوة للناس أجمعين؛ وإن سِيَر أمَّهات المؤمنين، أزوج النبي الكريم فرع عن سيرته العطرة؛ إذ لولاه لما كان لهن شأن، ولا بقي لهن ذكر، بل ولولاه عليه السلام لما كان للدنيا معنى ولا للحياة جدوى. وإن أعظم أمّهات المؤمنين شأنا، وأعلاهن مقاما، وأعظمهن جهادا أُولَاهُن دُخولا إلى البيت النبوي الطاهر، أمُّنا خديجة بنت خويلد عليها رضوان الله.

إنّها أمُّ المؤمنين، وسيّدة نساء العالمين، زوجُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمُّنا خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى رضي الله عنها، وهي أول من آمن برسول الله وصدّقه، ألقى الله حبَّها في قلوب أبنائها المؤمنين، حُبا لا يحدُّه زمانٌ ولا يحصره مكان، يسري في وِجدان كل مسلم سارَ على هذه الأرض إلى أن يرثها الله ومن عليها، فهي المرأة العظيمة التي لا يكاد يجهلها أحدٌ من المسلمين، صغيرِهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، عامتهم وخاصتهم، وحُقّ لهم ذلك، إذ كيف يجهلون من جعلها لهم ربُّهم أمّا لهم، قال سبحانه:( النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)[الأحزاب/06].

لكن قبل الغوص في جوانبَ من شخصية أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، والحديث عن مختلف تضحياتها التي لا تُضاهى، من أجل الإسلام والمسلمين، وجهادها لجعل كلمة الله هي العليا، لابد أن نبحث أولا عن سبب هذا القَبول الذي وضع لها بين الأنام، وعن منبع تلك المحبة الخالصة التي نالتها من قلوب أبنائها المؤمنين، وعن سر تلك المكانة الرفيعة، والمنزلة العليا التي بوأها الله إياها دون سائر الناس؛ فإن من عَرف السببَ بطًل عنده العجب.

إنّ ذلك القبول في الأرض، وتلك المحبّة الخالصة، والمكانة العالية، والمنزلة الرفيعة، لم يكن كلُّ ذلك ليحصل لها بسبب ذكائها ولا برجاحة عقلها، فكم من ذكي حَصِيفٍ راجح العقل طوى الزمانُ أثره، وانتهى شأنه برحيله عن الدنيا. كما لم يكن ليحصل لها بسبب أصالة نسبها ولا بشرف حسبها، فكم من ذي نسب أصيل وحسب رفيعٍ ما عرفه أحد وما أنصفه التاريخ. ولم يكن أيضا ليحصل لها كذلك بفضل مالها وتجارتها، فكم من صاحب مال وثروة نساه التاريخ، ومَحتْ الأيام ذكره إثر نفاذ أجله وماله!

أن السبب الحقيقيَّ إيها القارئ الكريم، الذي جعل أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها تتبوأ هذا المقام الأعلى عند الله تعالى، وعند رسول الله، وعند سائر المسلمين، هو شِدّة قربها من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، صاحب الوسيلة والمقام المحمود، ومبادرتُها إلى الإيمان به نبيّا ورسولا قبل أن يدعوها إلى ذلك، ونُصرتها إياه بكل ما آتاها الله من مال ونفس وجاه، وإن شئت قلت باختصار: إن السبب هو شدة اتباعها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وَإِذَا سَخَّرَ الإِلَهُ أُنَاساً لَسَعِيدٍ فَإِنَّهُمْ سُعَدَاءُ

ذلك أن اتباع رسول الله مُوجبٌ من موجبات نيل محبة الله تعالى، وجالبٌ لمرضاته سبحانه، ومصداق ذلك في الذكر الحكيم، قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)[آل عمران/31]، وإن من أحبَّه الله تعالى ورضي عنه، ألقى في قلوب عباده حُبه، فيحبوه فيوضع له القبول في الأرض، وفي الحديث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنّ الله تعالى إذا أحَبَّ عبدا دعا جِبريل، فقال: إني أُحِبُّ فلاناً فأَحْبِبْهُ، فيُحِبُّه جبريل، ثم يُنادي في السّماء، فيقول: إنّ الله يُحبُّ فلاناً فأحبُّوه، فيُحبه أهل السّماء، ثمّ يوضعُ له القَبولُ في الأرضِ)[البخاري/3209].

فقد شرَّف الله سبحانه أمَّنا خديجة رضي الله عنها، بأن أرسل الملك الأمين، جبريل عليه السلام، من فوق سبع سماوات، ليقرئها سلاما مباركا منه سبحانه، فما أعظمه من شرف، وما أجملها من كرامة؛ فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ ، أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لاَ صَخَبَ فِيهِ ، وَلاَ نَصَبَ”[البخاري/3820].

أولا: أمُّ المُؤْمنِينَ خَدِيجَةُ… أصَالةُ النّسبِ، وشَرفُ الحَسَبِ، وسُموُّ المَنْزِلَةِ.

هي أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كِلاب بن مرَّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر -رضي الله عنها-، يلتقي نسبها بنسب سيدنا رسول الله في جدها الرابع، أي: قصي بن كِلاب. فنسبها فرع عن النسب الشريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكانت خديجة رضي الله عنها امرأة حازمةً، شريفة، لبيبة، مع ما أراد الله به من كرامته[1]. روى ابن سعد عن نَفِيسةَ بنت مُنْيَةَ – وهي من صواحبِ خديجةَ – قولها: “كانت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، امرأة جلدة، شريفةً، مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط قريش نسبا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم مالا، وكل قومها كان حريصا على نكاحها لو قدر على ذلك”[2]. ولا عجب في أن يكون نسب أم المؤمنين وزوج رسول الله بهذا المستوى من الشرف، فقد هيأها الله تعالى بمشيئته وحكمته، لتكون ركنا من أركان بيت النبوة، واصطفاها لهذا الأمر الجسيم، ولهذا الشأن العظيم، إذ لا يليق بهذا المقام إلا من هي أهله. قال الله تعالى مخاطبا نساء النبي رضي الله عنهن: “وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)[الأحزاب/33]، ويعلق الإمام المفسر ابن عاشور رحمه الله على هذه الآية بقوله: “هذا التطهير لهنّ لأجل مقام النبي صلى الله عليه وسلم لتكون قريناته مشابهات له في الزكاء والكمال، كما قال الله تعالى:{الطيِّبَاتُ للطَّيِّبِينَ}[النور:26] يعني أزواج النبي للنبي صلى الله عليه وسلم”[3].

إن السيدة خديجة بنت خويلد، إضافة إلى كونها ذات نسب شريف، فهي أيضا ذات منصب ومقام، وصاحبة جاه ومال. جاء في سيرة ابن هشام: “وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة، ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه، بشيء تجعله لهم”[4]، ولم يكن من شأنها -وهي امرأة شريفة عفيفة- أن تخرج مع القوافل لتسيح في البلدان وتجول في الأصقاع، بغرض المتاجرة، فذلك ليس من شأن النساء في مكة آنذاك؛ إنما كان عملها أن تستأجر رجالا فيبيعون ويشترون باسمها، مقابل أجر معلوم تدفعه لهم، أو أن يتاجروا في مالها مع حظهم من الأرباح، دون أن يتحملوا الخسائر المحتملة، وهو ما يسمى عند الفقهاء بالمضاربة.

لقد تواترت الأخبار، وتتابعت الآثار، التي تزكِّي النسب الشريف لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وترفع من قدر زوج النبي الأمين، “إنها امرأة عريقة النسب، ممدودة الثروة، وقد عرفت بالحزم والعقل، ومثلها مطمح لسادة قريش، لولا أن السيدة كانت تحقر في كثير من الرجال أنهم طلاب مال لا طلاب نفوس. وأنَّ أبصارهم ترنو إليها بُغية الإفادة من ثرائها وإن كان الزواج عنوان هذا الطمع! لكنها عندما عرفت محمدا عليه الصلاة والسلام وجدت ضربا آخر من الرجال. وجدت رجلا لا تستهويه ولا تدنيه حاجة […] رجلا تقفه كرامته الفارعة موقف النبل والتجاوز، فما تطلَّع إلى مالها ولا إلى جمالها! لقد أدى ما عليه ثم انصرف راضيا مَرضيا. ووجدت خديجة ضالتها المنشودة.”[5]

ثانيا: مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ اللهِ عَلَيْهِ الصّلاةُ والسّلامُ، وخَدِيجَةُ بنتُ خُويْلِدٍ، والمِيثَاقُ المُبَاركُ.

لقد تقدّمت الإشارة إلى المكانة العالية التي تَتَبَوَّؤُها السيدة خديجة في قومِها، والمنزلة السامية التي تعتليها في قريش؛ فهي صاحبة شرف وجاه، وذات منصب وجمال ومال، مع ما لها من حكمة ورجاحة عقل ورزانة في الأفعال. ناهز عمرُها قبيل زواج رسول الله بها زهاء أربعين عاما، ولم تكن عانسا، بل هي أرملة سبق أن تزوّجت باثنين من أشراف قريش وكبرائها، وهما عَتيق بن عائد المخزومي، ثم أبو هالة التيمي، ولم تجد بعدهما من هو كفء لها من أهل مكة، وقد ردّت الكثير منهم ولو كانوا ذا وجاهة.

لكن ما شاهدته في سيدنا محمد -وهو المعروف في قومه بالصادق الأمين- حين متاجرته في مالها رفقة غلامها ميْسَرة، من صدق الحديث، وحسن الخلق، وحياء وأمانة، جعلها تفكر في الزواج منه وأن تعرض عليه نفسها، وقد بعثت إليه لهذا الغرض إحدى صواحِبها تدعى نَفِيسة بنت مُنْيَةَ. جاء في سيرة ابن هشام: “فلما أخبرها ميسرة بما أخبرها به، بعثت إلى رسول الله فقالت فيما يزعمون: يا ابن عم إني قد رغبت فيك، لقرابتك وسِطتك في قومك وأمانتك، وحسن خلقك وصدق حديثك، ثم عرضت عليه نفسها […] وأصدقها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين بكْرة، وكانت أول امرأة تزوجها رسول الله، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت رضي الله عنها”[6].

إن ما رأته السيدة خديجة في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، من خلق عظيم، وأمانة وحياء، وصدق ووفاء، هو ما دفعها إلى أن تعرض عليه نفسَها للزواج بها؛ فصداقُها صِدْقُه، ومَهرُها أمانَتُه، كيف لا وهي المرأة التي بلت الدُّنيا، وخبَرت الرجال، وتعاملت معهم سنين عددا، لكنها لم تر مثل محمد عليه السلام خَلقا وخُلقا.

وَأَحسَنُ مِنكَ لَم تَرَ قَطُّ عَيني وَأَجمَلُ مِنكَ لَم تَلِدِ النِساءُ

خُلِقتَ مُبَرَّءً مِن كُلِّ عَيبٍ كَأَنَّكَ قَد خُلِقتَ كَما تَشاءُ

“وحيث ثبت أن خديجة رضي الله عنها من خير نساء أهل السماء والأرض، ومحمد صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين، وخِيرة الأنبياء والمرسلين، فأكرم بالخيِّرين كليهما -وإن تفاضلا- وبيت محمد وخديجة نموذج رائع للبيوت المسلمة وخير قدوة لها.”[7].

فلمّا نزل الوحي، وجاء جبريل رسولَ الله، حصلت السيدة خديجة رضي الله عنها على وِسام عال من الله تعالى، وتشريف سام منه سبحانه، وهو أنه عز وجل نزَّلها منزلة أم المؤمنين، بما تستحقه منهم من البر والإجلال، والتعظيم والاحترام. قال تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) [الأحزاب/06]. لقد عَلِمْنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثابة والدِ كل مؤمن، وما أعظمه من والد، وقد ثبت في الحديث قوله عليه السّلام: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلِّمُكم)[أبوداود/08] ثم عُدَّتْ أزواجُه عليهن رضوان الله أمهاتٍ للمؤمنين، قال الإمام أبو عبد الله القرطبي: ” شرّف الله تعالى أزواجَ نبيِّه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهاتِ المؤمنين؛ أي: في وجوب التعظيمِ والمَبرَّة والإجلال، وحُرمةِ النِّكاح على الرجال، وحَجْبِهن رضي الله تعالى عنهن بخلاف الأمهات. وقيل: لما كانت شفقتهن عليهم كشفقة الأمهات أنزلن منزلة الأمهات”[8]

ثالثا: مَظَاهِرُ نُصْرَتِها لرَسولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَليْه وسَلّم في دَعْوَتِهِ.

عندما بلغ سيدُنا محمد صلى الله عليه وسلم أربعين عاما من عمره، وبعد أن هيأه الله تعالى لتلقي الوحي، وتبليغ رسالة التوحيد إلى الناس كافة، وحمْل الأمانة العظيمة؛ وبينما هو في غار حراء يتحنّث فيه -وهو التّعبُّد- كعادته ليالي ذوات عدد، إذ جاءه الملك الأمين جبريل عليه السلام، لينبئه بالأمر الجسيم، وليُلقي عليه القول الثقيل، وكان أول ما تلقاه رسول الله منه حينه: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذِي خَلَقَ)[العلق/01]. “فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضى الله تعالى عنها، فقال زملوني زمِّلوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كَلّا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتَقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق.”[البخاري/03].

إن خبر نبوّة رسول الله، وقُرب مبعثه لم يكن مفاجئا للسيدة خديجة رضوان الله عليها، فقد أعدّت له العُدة، وهيأها الله لتكون السند الأول للنبي المختار عليه الصلاة والسلام؛ فلم تنزعج مما أخبرها به، ولم تغضب مما حكاه لها! بل طمأنته على الفور، وثبّتته في لحظته، وأكّدت له أنه أهل لأن يرعاه الله. ومن تمام حكمتها وكمال عقلها إن استنتجت أن المُتَّصِف بتلك الأخلاق العالية، والشيم النبيلة، والصفات الطيّبة التي يتصف بها هو لا يمكن أن يخزيَه الله أبدا، ولا أن يتخلى عنه قط!

إنّ من فضائل أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها التي تُحفظ لها ولم يسبقها أحد في ذلك، أنها أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وصدّقه، قبل أن يدعوها إلى الإسلام، بل بفطرتها السليمة، وبهداية الله السابقة، وبذلت في سبيل نصرة رسول الله كل غال ونفيس على مَرّ عمرها. قال ابن هشام: “وآمنت به خديجة بنت خويلد، وصدّقت بما جاء من الله ووازرته على أمره، وكانت أول من آمن بالله وبرسوله، وصدق بما جاء منه، فخفّف الله بذلك على نبيه صلى الله عليه وسلم، لا يسمع شيئا مما يكرهه من ردٍّ عليه وتكذيبٍ له، فيحزنُه ذلك، إلا فرَّج الله عنه بها إذا رجع إليها، تُثبته وتُخفِّف عليه، وتصدِّقه وتهوِّن عليه أمر الناس”[9].

ثم جاءت لحظة الشٍّدة! لحظة الحِصار الظالم، والمقاطعة الجائرة، حين قرر أكابرُ مجرمي قريش، والفئةُ الباغية في مكة مقاطعة بني هاشم وبني عبد المطلب لإجبارهم على تسليم رسول الله، أو إسكاته إلى الأبد! تقول الدكتور عائشة عبد الرحمن(بنت الشاطئ): “ووقفت زوجه المحبة المؤمنة إلى جانبه، تنصره وتشدُّ أزره، وتعينه على أقسى ضروب الأذى والاضطهاد سنين عددا، فلما قضي على بني هاشم وعبد المطلب أن يخرجوا من مكة لائذين بشعب أبي طالب بعد أن أعلنت عليهم قريش حربا مدنية لا تَرحم، وسجّلت مقاطعتها لهم في صحيفة علقت في جوف الكعبة، لم تتردد خديجة في الخروج مع زوجها، وهكذا تخلت عن دارها الحبيبة، مُغنى صباها ومجمع هواها ومثابة ذكرياتها، وقامت تتبع رجلها ونبيّها وقد علت بها السن، وناءت بأثقال الشيخوخة، والثكل والاضطهاد. وأقامت هنالك في شعب أبي طالب ثلاث سنين، صابرة مع الرسول ومن معه من صحبه وقومه، على عنت الحصار المنهِك، وجبروت الوثنية الراسخة، العاتية العمياء.”[10]

رابعا: عَامُ الحُزْنِ … حِدَادٌ عَلَى رَحِيلِ أُمِّ المُؤْمِنِينَ.

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومُذْ جاءه جبريل عليه السلام، وكُلف بتبليغ رسالة الإسلام، وهو في جهاد أكبر، ترك الراحة، وهجر النوم، يتحمل أذى القوم وإعراضَهم، ويصبر على سوء فِعالهم وفُحش كلامهم، ومن تمام رحمته وكمال عطفه أنه لا يزيد عن قوله: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون! وما إن انتهى الحصار الجائر الذي ضربه كبراء قريش عليه وعلى أهله وأتباعه، وآن الأوان له ليعود إلى بيته مع زوجه الصبور أم المؤمنين رضي الله عنها، وليستأنف تبليغ الرسالة من جديد، وبثِّ نور التوحيد الساطع لتبديد ظلمات الجاهلية الحالكة؛ حتى حلّت مصيبة أخرى أعظم حجما، وأشد ألما من سابقتها! إنها وفاة أم المؤمنين، زوج النبي الكريم خديجة رضي الله عنها، بعد أيام فقط من رحيل العم الوَفيِّ أبي طالب.

لا يملك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الأسوة الحسنة في الصبر، وفي كل خلق كريم، إلا إن يمتثل قول رب العالمين: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ)[النحل/127]، “كانت وفاتها رضي الله عنها قبل الهجرة بثلاث سنين على الصحيح. وتلفّت محمد صلى الله عليه وسلم حوله، فإذا الدار من بعدها موحشة خلاء، وإذا مكة تنبو به بعد رحيلها فليس له على أرضها مكان … […] وبلغت متاعبه صلى الله عليه وسلم أقسى مداها في عام موت خديجة الذي سُمي عام الحزن”[11]

هكذا ودّع رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّل من آمنت به حين كذّبه الناس، ومن آوته حين طرده الناس، ومن نصرته حين خذله الناس، لقد جعلها الله سندا وفيّا، وظهيرا مخلصا لرسول الله. قال ابن إسحاق: “فتتابعت على رسول الله المصائب بهلك خديجة، وكانت له وزير صدق على الإسلام، يشكو إليها”[12]. وهكذا ودّع المؤمنون الأم الحنون، وهي عنهم راضية، وهي التي وقفت معهم في لحظة العُسر، وتفانت في الدفاع عنهم بنفسها ومالها إلى أن قضت نحبها رضي الله عنها؛ وتركتهم الآن أيتاما يتخطَّفهم الأعداء، ويُطاردهم الخصوم. ولكن من يَدر؟ لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا؛ فيأتي بيُسر بعد عسر، وبرخاء بعد اشتداد، كما يأتي بفجر مُسفر بعد ليل مُظلم.

يقول الشيخ محمد الغزالي: “إن خديجة من نعم الله الجليلة على محمد عليه الصلاة والسلام، فقد آزرته في أحرج الأوقات، وأعانته على إبلاغ رسالته، وشاركته مغارم الجهاد المُر، وواسته بنفسها ومالها […] فهي صِدِّيقة النساء، حنت على رجلها ساعة القلق، وكانت نسمة سلام وبر، رطبت جبينه المتصبب من اثار الوحي، وبقيت ربع قرن معه، تَحْترِم قَبل الرسالةِ تَأَمُّلَهُ وعُزْلتَه وشَمَائِلَه، وتتحمّل بعدَ الرسالة كيد الخصوم، وآلام الحصار، ومتاعب الدعوة، وماتت والرسول صلى الله عليه وسلم في الخمسين من عمره، وهي تجاوزت الخامسة والستين، وقد أخلص لذكراها طول حياته.”[13]

وقد بشّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة؛ روى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: “أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام او شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب.” [البخاري/رقم:3820]، قال السُّهيلي: “لا صَخَب فيه ولا نصَب […] لأنه عليه السلام دعاها إلى الإيمان فأجابته عفوا، لم تُحوجه إلى أن يصخب […] ولا أن ينصب، بل أزالت عنه كل نصَب، وآنسته من كل وحْشة، وهوّنت عليه كل مكروه، وأراحته بمالها من كل كدّ ونصَب، فوصف منزلها الذي بُشرت به بالصِّفة المقابلة لها وصورته.”[14]

خامسا: رَحَلَتْ أمُّ المُؤمِنِينَ … ورَسُولُ اللهِ يَذْكرُ فَضْلَها إلَى أنْ رَحَلَ!

قال الله عز وجل: (وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم/04]. لقد خلق الله سبحانه رسوله الكريم وأدَّبه فأحسن تأديبه، وبعثه ليتمم مكارم الأخلاق، وجعل فيه الخلق العظيم فِطرة، والأمانة والوفاء سجية، والصدق والصبر جبلّة، فهو الإنسان الكامل، والمثل الأعلى، والأسوة الحسنة، والقدوة الأسمى عليه السلام. ولله ذر البوصيري إذ يقول:

رَحْمَةٌ كُلُّهُ وَحَزْمٌ وَعَزْمٌ وَوَقَارٌ وَعِصْمَةٌ وَحَيَاءُ

لاَتَحُلُّ الْبَأْسَاءُ مِنْهُ عُرَى الصَّبْ رِ وَلاَ تَسْتَخِفُّهُ السَّرَّاءُ

كَرُمَتْ نَفْسُهُ فَمَا يَخْطُرُ السُّو ءُ عَلَى قَلْبِهِ وَلاَ الْفَحْشَاءُ

وإن من الأخلاق التي فُطر عليها سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، خلق الإخلاص والوفاء؛ فلم تجبره الأيام ولا السنون أبدا على أن ينسى فضل أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها عليه، وعلى الدّعوة الإسلامية حين بَدئها، فقد ظل يذكُرها كل حين، ويدعو لها في كل مناسبة، وكذلك كان حتى لحق بها عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.

تقول عائشة عبد الرحمن: “ستدخل بعدها في حياته صلى الله عليه وسلم، نساء ذوات عدد، لكن مكانها في قلبه وفي دنياه، سيظل أبدا خالصا لهذا الزوج الأولى […] سوف تفد على هذا البيت بعدها أزواج اخريات، فيهن ذوات الصبا والجمال، ولحسب والجاه، ولكن واحدة منهن لن تستطيع أن تزحزح خديجة عن مكانها هناك”[15]

لقد رحلت أم المؤمنين خديجة عليها السلام، ومرّت سنواتٌ وبعدها سنواتٌ، وهاجر رسول الله إلى المدينة المنورة، وتزوج نساء أخريات رضي الله عنهن جميعا، وغزا غزوات، وانتشر الإسلام في الأصقاع، وبنى دولة قوية على أُسّ التوحيد، تأوي آلاف من المسلمين؛ إلا أنه رغم كل تلك المدّة غير اليسيرة، والإنجازات والأحداث الكبرى لم تجعله ينسى فضل أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها. فقد ظل يذكرها كل حين، ويحدِّث عنها في مناسبات عدة. روى الأمام أحمد في مُسنده عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا، فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ، قَالَتْ: فَغِرْتُ يَوْمًا، فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا، قَالَ: ” مَا أَبْدَلَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ”[المسند/24864]

تلك هي أم المؤمنين الأولى، التي اصطفاها رب العالمين لتكون أول من آمن برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وخير من نصر الإسلام في بدئه، وأفضل من وقف مع النبي المبعوث في بداية مبعثه، إنها سيدة نساء العالمين، حَمل إليها جبريل سلاما خاصا من الله عز وجل، وبشارة بالجنة لقاء ما قدّمت وفضلا من الله تعالى. إنها أهل لتحزن على رحيلها القلوب، وتبكي على فقدانها العيون، وترثيها بعد وفاتها الألسُن.

آلَ بَيْتِ النَّبِيِّ طِبْتُمْ فَطَابَ الْ مَدْحُ لِي فِيكُمُ وَطَابَ الرِّثَاءُ.

===============.

الهوامـــــش.

[1] ابن هشام، السيرة النبوية، نشر دار الكتاب العربي، ج1، ص213.

[2] محمد بن سعد، الطبقات الكبير، نشر مكتبة الخانجي، ج1، ص109.

[3] ابن عاشور، التحرير والتنوير، نشر الدار التونسية للنشر، ج22، ص14.

[4] ابن هشام، السيرة النبوية، ج1، ص212-213.

[5] محمد الغزالي، فقه السيرة، نشر دار الكتب الحديثة، ص79.

[6] ابن هشام، السيرة النبوية، ج1، ص213-214.

[7] سلمان العودة، المختصر في صحيح السيرة، نشر دار رسالة البيان، ص56.

[8] أبو عبد الله القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، نشر مؤسسة الرسالة، ج17، ص62.

[9] ابن هشام، السيرة النبوية، ص274.

[10] عائشة عبد الرحمن، نساء النبي، نشر دار الكتاب العربي، ص48.

[11] المرجع نفسه، ص49-50.

[12] ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص64-65.

[13] محمد الغزالي، فقه السيرة، ص: 128.

[14] أبو القاسم السهيلي، الروض الأنف، نشر دار الكتب العلمية، ج1، ص417.

[15] عائشة عبد الرحمن، نساء النبي، ص51.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *