وجهة نظر

فوائد الصفع.. مقاربة سوسيوتاريخية

وانا أمكث في بيتي، وألزم الحجر الصحي، تابعت مشاهد تدمي القلب ويندى لها الجبين لبعض رجال السلطة وهم يصفعون المواطن تلو الآخر على قارعة الطريق، …، كما أنها ستظل وصمة عار في جبين كل من سكت عن منكرها، بله من صفق وطبل وزمر لها.

وأمام هذا المشهد المقرف تساءلت لماذا حضور ظاهرة الصفع، والحال أن المجتمع مصفوع أصلا ولأيام مضت بخطر فيروس كورونا المستجد (كوفيد19)، وأن غالب من يخرجون إما هم ضحايا الفقر المدقع الذين لم تصلهم قطرة من أمطار الأموال التي هطلت على الصندوق الذي أُحدِثَ لتدبير جائحة كورونا، وإما هم ضحايا الإدمان بسبب سهولة ترويج كل ألوان المخدرات…. وأيا يكون سبب خروج هؤلاء، وأيا يكون دافع استخدام العنف من طرف السلطات، فإن هناك قوانين وهناك قضاء يعاقب او يبرئ كل ظنين.

لكنني وكعادتي لا تحجبني ظواهر الأفعال عن البحث في دوافعها الداخلية وحوافزها الخارجية. فتأملت فعل “الصفع” وقلت: لماذا هناك في السلطة “صَفَاعِنَةٌ” يستهويهم صفع المواطنين، وهناك “مُنْصَفِعَةٌ” من المواطنين لهم القابلية للصفع؟ ثم لماذا هناك جمهور يشيد بالصافع، ويندد بالمصفوع؟ هل لأن هذا الأمر متجدر في ثقافتنا، أم لأنه أحد السمات البارزة في تاريخ الاستبداد؟ ولئن كان الأمر كذلك، فما هي جذور هذه الممارسات في تاريخ الحكام المغَيَّبِ؟

يقول القاضي شهاب الدين التيفاشي (651هجرية) في كتابه «نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب» في الباب الأول الذي صدَّر به كتابه وهو باب(في الصفع وما فيه من الفوائد والنفع) يقول: «وإني امرؤ استنبطت العلوم، وحذقت النجوم، وطالعت جميع الكتب بأسرها على اختلاف أجناسها وأصنافها، فلم أجد شيئا يبقى صلاحه على مر الأزمان وتَقَلُّبِ الأيام، ومتى استعمل كان حاضر النفع ظاهر الحقوق والرفع، لايؤدي إلى الفساد في الدين، ولا يتعقبه نقص في الدنيا، ولا هلى الأنفس منه ثقلة، ولا على الأجسام منه أذى. يدخل في أبواب الخير، ويخرج من أبواب الشر. تقوم عليه الأدلة، وتشهد له البراهين، لا يقدر طاعن يطعن فيه، ولا مَزْدَرٍ يزدريه، ولا واقع يقع فيه إلا الصفع!»

نص تاريخي يُقَعِّد لفلسفة الصفع ويؤسس لنظرية متماسكة ونسقية لفعل الصفع، بل إن النص قد يعد مرجعا في أخلاق وقيم الصفع حيث ورود مصطلحات من قبيل: الصلاح والنفع والخير والحقوق، مقابل الفساد والشر والأذى. ثم إنني قلت في نفسي فلعل هذا النص يندرج في التنظير البعيد عن الواقع، وأن ما نراه من صفع للمواطنين في زماننا بدعة محدثة ليس لها أثرة في فعل السابقين.

لكن التيفاشي هذا وكأنه كان يُطِلُّ عليّ من زمانه البعيد، وكان يستشرف سؤالي، فدلني على عهد المقتدر بالله العباسي الذي ازدهر في عهده الصفع حتى أصبح فعلا سلطانيا ملوكيا، وجُعِلَ له ديوان ووزير، وظهرت “طبقة المنصفعة” وهم موظفون وأجراء يمتهنون وظيفة استقبال الصفع على وجوههم وأقفيتهم. فهؤلاء المنصفعة الجاهزون يكونون من ندماء الملك يؤتى بهم عند الحاجة للتنفيس على غضب الأمير حتى يتفرغ لسياسة الرعية وتدبير شؤونها. وقد كان السلطان يأتي بالمنصفعة واحدا واحدا في صف ليصفعهم حتى يصيب خاطره، ويُنَفِّسَ عن غضبه، ويعتدل مزاجه وتهدأ الأخلاط في سويداء نفسه. ومما يثير الاستهجان ونحن نستحضر تلك الحقبة التي لا زالت تلقي بظلالها علينا، أن سياسة الصفع هذه ازدهرت معها حرفة ورياضة؛ فأما الحرفة فهي صناعة خفاف ونعال للصفع، وأما الرياضة فهي التدرب والتمرين على تحمل الصفع حتى كان من اشتهر بذلك يفوز بالوظيفة السامية والمرتبة السَّنِية عند السلطان. ومن فرط ما كان الصفع وسيلة للاسترزاق والوظيفة حتى عُدَّ عند أهل العصر مزية وجعلوه “تحفة المؤمن الصالح”.

لقد خلف لنا تاريخ الاستبداد منظومة قمعية يقوم حكمها وتتأسس سلطتها على نزعات سادو-مازوشية تستلذ الصفع، وتربي رعاياها على استعذاب الضرب على أنه من حبيب يذكرك بأكل الزبيب! منظومة قسمت المجتمع إلى منصفعة لا يستقيم حالهم إلا بالصفع، وصفاعنة يسهرون على صلاح البلاد والعباد بالصفع لِما اشتمل عليه الصفع من حِكَمٍ ظاهرة ونِعَمِ غامرة. ولكي تتأكد مما أقول انظر كيف يحلو للبعض أن يضحك أو يشيد بالصفع وهو يرى مشاهده وكأن الذي يُصفع ليس آدميا له كرامة.

ولئن كان فعل الصفع زمن المقتدر بالله العباسي يمارس في بلاطه بعيدا عن أعين الناس، فإن سلاطين عصرنا قد أحدثوا وظيفة جديدة وأُجَرَاء جُدُد وهم “الصفاعنة” الذين ينوبون على السلطان في صفع الشعب لعل يده تصل بالنيابة لكل الرعايا من المنصفعة الجاهزون، أو ما يسمى باللغة البيروقراطية المعاصرة ” تقريب الصفع من المواطنين”. هكذا يصبح كل من له القابلية للصفع مواطن صالح، ويصبح كل من يرفض أن يكون منصفعا من الخوارج العدميين الذين يثيرون الفتنة ويخرجون عن الإجماع الوطني!

إننا ونحن نتحدث اليوم عن الوطن والوطنية والمواطنة، يتوجب علينا أن نستحضر بأن إهانة أي مواطن هي إهانة للوطن الذي ينتمي إليه، وهي ضرب لكل قيم الوطنية والمواطنة التي ندعو المنصفع الى تبنيها. إن إقدام أي رجل سلطة على استعمال العنف غير المشروع هي جريمة تثبت في حقه، كما تثبت بالتعدي للرمز الأعلى الذي يمثل تلك السلطة حالة السكوت على محاسبة مقترف الجريمة.

لقد آن الآوان كي نقول إن من صفع مواطنا فكأنما صفع المواطنين جميعا، وأن من حافظ على كرامة مواطن فكأنما حافظ على كرامة المواطنين جميعا.

فإذا كان لأسير الحرب، وهو في حالة عداء، قانون يحمي كرامته ويضمن حقوقه، فالأولى لمن يخالف حالة الطوارئ أن يكون له قانون يحمي كرامته ويضمن له محاكمة عادلة في دولة وفرت له مسبقا كل شروط العدل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. أما وأن يكون في الشعب أسر تقتسم منزلا، في كل حجرة أسرة، ويشتركون مرحاضا واحدا، فيضطرون للخروج بغية قضاء حاجتهم الطبيعية، ثم يعترضهم رجل سلطة ليمارس عليهم سياسة الصفع بدعوى حرصه على حفظ صحتهم وتنفيذ حالة الطوارئ، فإن هذه الممارسة تدخل في سياق المثل المغربي القائل: “جا يكحلو عورو” أي جاء ليضع الكحول في عينه ففقأ عينه بالمرودة.

فيا أصحاب السلطان لا تقتلوا كرامتنا بدعوى حفظ أجسادنا، فلا قيمة للأشياء دون جواهرها، وجوهر الإنسان كرامته!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *