وجهة نظر

الملاحظات السبع بخصوص الخطبة الموحدة

أجمعت كلمة العقلاء من علماء وغيرهم، على أن أسوأ انتكاسة وقعت في الحقل الديني خلال المرحلة الأخيرة، هي ما سمي بتوحيد خطبة الجمعة. وذلك لاعتبارات كثيرة نورد سبعة منها:

أولها وأخطرها، أنها نُسبت للعلماء ولخطة تسديد التبليغ، وهذا من أكبر الزور، إذ الواقع أنها نزلت على الجميع، لا يد فيها للعملاء، نزلت من جهة يعلم الله ما هي.

صحيح، لقد ظهر بعض من ينتسب للعلم، مدافعين عنها مُسوقين لها، مدعين أنها طفرة حضارية وما شابه… ولا عجب، فأمثال هؤلاء حاضرون في كل وقت وحين من تاريخ أمتنا، والكل يعلم أن كلامهم ومواقفهم لا عبرة بها ولا قيمة لها.

صحيح، استجاب لها وبالحرف، الكثير من الخطباء، وهؤلاء أحد رجلين: خائف على مكافأته وبيته المرتبط بالمسجد، مشفق على أبنائه ورزقه الهزيل إن هو لم يخضع. أحسن ما يقال عنهم (الله يحسن لعوان). والثاني، كسول خمول لا رغبة له في الإعداد، ولا أهلية له ليخاطب الناس بلسانهم، وفي ما يعالج واقعهم الخاص في سياق الواقع العام الوطني والدولي. وأحسن ما يعلق به على هؤلاء الدعاء لهم بالمغفرة والهداية.

ثانيها: بنيت هذه المبادرة على اللف والدوران، لا على الصدق والوضوح. ففي البدء كانت خاصة ببعض المساجد المختارة للتجربة، ثم بقدرة قادر فُرض تعميمها على المساجد كلها، بغض النظر عن اعتبارات المكان والحال والعادات والأحوال…. ثم حصل التراجع السريع عن فكرة التعميم، وصدرت المذكرة التي تنص على أنها مجرد اقتراح، وللخطباء الصلاحية والأهلية للتصرف بما يناسب المكان والزمان والحال… فتنفس الناس الصعداء، وسعدوا لبصيص الرشد الذي بدا… ولكن سرعان ما شنت حملة منهجية ناطقة وساكتة، فيها تتبع دقيق وضغط نفسي كبير على الخطباء… فنُعِت من يتصرف وفق المذكرة الرسمية بالمرض وبالخروج… كما أن فيها ترهيبا كبيرا من قبل الإدارة للخطباء يتجدد كل جمعة…

ثالثها: إن هذه النازلة قد أدخلت بلدنا كله في حالة من الخوف والرعب والقلق والترقب للأسوأ، وجعلت المساجد هياكل جامدة لا روح فيها ولا طمأنينة، ولا خشوع فيها ولا خضوع… بل كل من فيها يعلم أن ما يقال وما يفعل هو من أجل تجنب الكون مع المرضى أو الحشر مع الخوارج! وكم سمعت من الأئمة والخطباء ما ذكره الله عن موسى عليه السلام (… خائفا يترقب).

رابعها: هب أن هذا الفرض للخطبة هو من قبيل الإصلاح. وهل تأهيل الحقل الديني والرقي بالخطباء يتم عبر هذه الطريقة الفوقية الفردانية المعتمدة على الترهيب والتهديد، المستغلة لحاجة الأئمة في معاشهم وخبزهم!! هل الإصلاح برفع عصا الطرد والحرمان على جميع الخطباء والعلماء والأئمة، وجعلهم قطيعا لا يسعهم سوى الانقياد الحرفي؟؟؟ ما قيمة اختبارات التأهيل إذن؟؟ وما الحاجة إليها؟؟؟

إن التأهيل السديد يقوم أساسا على التكوين المستمر، والتعليم الحكيم، والاحترام الكبير لأهل القرآن، والاعتبار الرشيد للعلماء والدعاة.
إن ما نشاهده ونعيشه من أحوال مع هذه التوجسات والإملاءات المخيفة… كل ذلك من شأنه أن يجعل من القيمين الدينيين عبيدا لا رائحة لهم ولا طعم، ولا فرصة لهم لمعالجة التطرف المستكن في الدروب والأزقة والقرى… مما يضرب بعمق في مصداقيتهم لدى العام والخاص، كما يعصف بمصداقية الإدارة المسؤولة عن ذلك، ويفسح المجال للتأطير الآخر المتطرف غير المقيد بشيء من الثوابت والضوابط.

خامسها: إن الواقع لا يقبل الفراغ، وإن العودة إلى التدين وطنيا وعالميا، عامةٌ، وإن إصابة العلماء والدعاة على المنابر بالشلل، كل ذلك يشجع على الهجرة إلى وسائل التواصل وما فيها من الزعامات المصطنعة، بخطابها المثير وبجرأتها المعروفة وبفقهها الذي لا ينضبط بشيء، وبعدم اعتبارها للثوابت البتة. فتكون هذه القرارات، من حيث أدرك أصحابها أو لم يدركوا، جريمة حضارية في حق بلدنا الحبيب، وفي حق ثوابتنا الدينية والوطنية التي هي صمام الأمان حاضرا ومستقبلا.

سادسها: لا يخفى أن المتتبع للخطب المقترحة منذ أكثر من عام، ليلحظ فقرها الموضوعي الكبير، وما فيها من الاختلالات المنهجية الظاهرة.
فقد ابتليت منابرنا بالهوة السحيقة بين الواقع والخطب… فها هو الصيف وما فيه من الفرص وما يعتريه من الكوارث… كل ذلك غُسلت منه خطب الجمعة… وها هي جملة من المواضيع المبدئية الحساسة التي تعد صلب الدين وجوهره، لا نجد لها حسا في خطبنا منذ عام… أين الحياء ومنازله؟ أين العفة وفضائلها؟ أين الأخوة الإيمانية وهيمنتها على قلوب المؤمنين؟ أين المسجد الأقصى وحرمته؟ أين حب الوطن والصدق في خدمته؟ أين الإتقان في العمل، وما يخل به من الغش والرشوة؟ أين شرف الأمة الإسلامية وعزة المؤمنين؟

أما الخلل المنهجي فحدث عنه ولا حرج، خطب ما فيها تشويق ولا إثارة، ولا يسر في التعبير، ولا ارتباط بالواقع من خلال تطبيقات وأمثلة… إن المناسب جدا في علم التواصل أن يضرب بها المثل في سياق الحديث عن الخطب الفاشلة.

سابعها: من المتضرر بهذا التوجه؟
هل المتضرر هو التطرف؟ كلا وألف كلا… فالتطرف ما عاد له وجود البتة في مساجدنا ولا مؤسساتنا الرسمية منذ مدة، ولله الحمد… فقد هاجر إلى العالم الوهمي عبر وسائل التواصل، وانزوى في هوامش لا أثر لها في الواقع العام… ومن أعظم العوامل التي أسهمت في ذلك العلماء والدعاة ذوو المصداقية من منابرنا ومساجدنا… فإذا تم تحجيم عملهم، وجعلهم، على جلالة قدرهم يقرؤون سطورا لا روح فيها، فإن المستفيد الأوحد من هذا هو التطرف وأسواقه، فهذه الخطة تعيد له نشاطه، وتميل إليه الجمهور الحائر ذا العاطفة الدينية الجياشة. إن الخاسر الكبير هو الوسطية والاعتدال وما تقوم عليه من الثوابت الدينية والوطنية.

إننا أمام خطة عنوانها تسديد التبليغ، لكن تنزيلها وإجراءات إنجازها لا يحقق سوى تشديد (بالشين) التبليغ وسد أبوابه وتعطيل آلياته، وفسح المجال للعبث في التأطير الديني، وخلق أجواء من الحيرة والاضطراب في صفوف عامة المسلمين، وجعلهم يتوجهون إلى وسائل التواصل الاجتماعي، وما فيها من متكلمين يعلم الله حالهم ومقصدهم. إنها خطة عصفت بالناس إلى المجهول.

رجائي، إن كان ينفع الرجاء، أن يستمع القائمون على الشأن الديني، ليكونوا على علم حقيقي بواقع هذه القرارات ومآلاتها.
هذا بالطبع إن كانوا في حاجة إلى هذه المعرفة، إذ ما ذكر في الملاحظات السبع وغيرها هو من قبيل المسلمات، لمن كانت له خبرة بواقع الناس في بلدنا وبأحوال القيمين الدينيين في ربوع مملكتنا الشريفة العزيزة، أدام الله لها الأمن والأمان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *