وجهة نظر

لا تستخفوا بالتهديد الاجتماعي لأزمة كورونا !

هذا ليس وقت دغدغة العواطف بالخطابات المتعالمة التي تزرع الوهم وتقتل رصيد التضامن والاستعداد له لدى المواطنين. ولا وقت ممارسة رياضات التبخيس والتيئيس والتشويش على السياسات العمومية، ولا حتى انتقادها بالشكل الذي ينزع عنها المصداقية ويحيطها بالشكوك. ومناسبة هذا الكلام محاولات تريد أن توهم الناس أن ميزانية الدولة فيها خيارات “كثيرة” ستكفي لتوفير السيولة بعيدا عن بعض الإجراءات المتخذة والتي “أضرت” ببعض الفئات. وتم اللجوء إلى وثيقة قانون المالية لسنة 2020 لنشر الكثير من الأوهام.

إن أزمة كورونا ليست فقط تهديدا للصحة العامة للبلدان، بل هي أيضا أزمة اقتصادية غير مسبوقة تتهدد جميع الاقتصادات بالانهيار. وبلدنا دخل نادي التهديد الصحي و الاقتصادي والاجتماعي للوباء. وخلاف ما يتوهم البعض، فالوضع يحتاج منا إعادة النظر في كثير من المسلمات التي نطمئن إليها غافلين.

سنقارب في هذا المقال معالجة أحد الأوهام المتعلقة بميزانية الدولة من زاوية لا تتطلب من أحد أن يكون خبيرا اقتصاديا، بل فقط منتبها إلى بعض الحقائق البسيطة التي يوردنا الجهل بها أو التعامي عنها منزلقات كبيرة.وسنكتفي بالتوقف عند 8 حقائق نعتبرها كافية لدحض التلويح بوثيقة قانون المالية وإشهاره فزاعة أمام ما يتخذ من إجراءات للتحكم في المالية العامة.

الحقيقة الأولى: قانون المالية الذي سارع البعض إلى استخراج “عصى موسى” منه لمواجهة الصعوبات المالية في ظل “أزمة كورونا” هي وثيقة نظرية تعرض فيها الحكومة توقعاتها لمداخيل ونفقات الدولة خلال السنة المالية المعنية. وحين نقفز على الطبيعة التوقعيةلتلك الوثيقة بكل ما تحمله من معاني الانجاز المستقبلي، فإنه لا نتوقع لأي تحليل سوى أن ينزلق إلى إنتاج الأوهام والزيف.

الحقيقة الثانية: الغلاف المالي لميزانية الدولة بجميع فروعها لا يتحصل بمجرد أن يصادق عليها البرلمان ويكون رهن إشارة الحكومة، بل إن تحصيله يعول فيه على تحصيل مختلف المداخيل المتوقعة التي تفصلها في وثيقة قانون المالية، والتي يتم استخلاصها خلال السنة المالية المعنية. وأن ما ينطبق على الميزانية العامة ينطبق أيضا على الميزانيات الفرعية المختلفة وعلى ميزانيات الحسابات الخصوصية.

الحقيقة الثالثة: هي أنه إذا نظرنا إلى بنية ميزانية الدولة في شقها المتعلق بالموارد سوف نجدها تتكون من 4 عناصر أساسية، وهي، بمعطيات قانون مالية 2020:

الميزانية العامة: المبلغ المتوقع لها هو 248 مليار و 884 مليون و 681 ألف درهم، وتمثل 56.75 بالمائة من ميزانية الدولة.

المداخيل الاقتراضية المتوسطة والطويلة الأمد: يتوقع لها مبلغ 97 مليار و 200 مليون درهم وتمثل 22.16 بالمائة من ميزانية الدولة.

الحسابات الخصوصية للخزينة: ويتوقع لها مبلغ 90 مليار و 254 مليون و 260 ألف درهم، وتمثل 20.58 بالمائة.

مرافق الدولة المسيرة المسيرة بصورة مستقلة: ويتوقع لها مبلغ 2 مليار و 236 مليون و 914 ألف درهم، وتمثل 0.51 بالمائة.

ويتضح من النسب السابقة حجم كل نوع في ميزانية الدولة. غير أنها كلها كلها مبنية، كما هو معروف، على توقعات ينبغي العمل على تحقيقها.

الحقيقة الرابعة:إذا علمنا أن المصدر الأساسي لميزانية الدولة هو النشاط الاقتصادي الوطني إضافة إلى الاقتراض، وعلما أن الأنشطة الاقتصادية قد تراجعت في ظل إجراءات الطوارئ الصحية بنسبة لن تقل في أحسن الأحوال عن 50 أو 60 في المائة، سندرك أن فرص تحقيق تلك الموارد، التي ستنعكس عليها الوضعية الاقتصادية المتراجعة، سوف تتراجع أيضا، وفي أحسن الأحوال بما لا يقل عن 50 أو 60 بالمائة.

الحقيقة الخامسة: إذا طال التراجع جميع موارد الميزانية فإنه بالتلازم سوف يزلزل حميع فروعها، وبالتالي فإن الحديث عن أن رئيس الحكومة بإمكانه التصرف في ميزانيات معينة مثل الحسابات الخصوصية كلام لا معنى له، لأن تلك الحسابات الخصوصية أيضا سوف تنهار المداخيل المرصودة لها، وندرك أن الأرقام التي يتلاعب بها البعض أرقام توقعية ستنهار أيضا في ظل التراجع الكبير للنشاط الاقتصادي الوطني.

الحقيقة السادسة: إذا علمنا أن نفقات الميزانية العامة تمثل فيها الأجور نسبة 48 بالمائة تقريبا، ومبلغها يقارب 120 مليار درهم في ميزانية 2020، ففي ظل الحقائق السابقة، ودغدغة عواطف بعض القطاعات الاجتماعية بالحديث الموهوم عن الترقيات،ينبغي أن نواجه الحقيقة الكبيرة والمرة بسؤال بديهي يقول: في ظل تراجع الاقتصاد الوطني بتلك النسب المهولة، وتراجع مداخيل الدولة نتيجة لذلك،من أين سوف تأتي هذه الميزانية حتى يتقاضى الموظفون أجورهم غير منقوصة؟ فهل نخشى على الترقيات أم على الأجور؟

الحقيقة السابعة: حين يصيب الشلل معظم الأنشطة الاقتصادية،فالدولة تتحمل مسؤولية التدخل باتخاذ إجراءات تقشفية وتدبيرية استعجالية تتسع حسب الحاجة، وإذا استمر الوضع في التفاقم ستكون تلك الإجراءات في الأيام المقبلة أكثر قسوة. ويكونتأجيل تفعيل الترقيات، التي تقارب قيمتها السنويةأربع مليارات درهم،مجرد إجراء بسيط، الطبيعي أن ننتقد عدم تعميمه وليس العكس.

الحقيقة الثامنة: إننا ننظر إلى صندوق تدبير جائحة كورونا وكأنه أبو الحلول وحامي الاقتصاد، و… وأن جميع تداعيات الأزمة المرتبطة بالوباء سيتحملها !لكن الحقيقة المرة التي لا يدركها كثيرون هي أن موارد ذلك الصندوق لن يتم تحصيلها بين ليلة وضحاها، بل سيتطلب تحويلها المتدرج من المكتتبين وقتا قط يزيد عن 6 أشهر في أحسن التقديرات، وفي انتظار تحصيل موارد ذلك الصندوق، من أين سيتم تدبير الأزمة؟ وحتى لو افترضنا أن الصندوق وفر بالفعل حتى 30 مليار درهم، فهل ستكفي لمعالجة أضرار انهيار النشاط الاتصادي وانعكاساته الاجتماعية؟

إذا اكتفينا بما سبق من حقائق بسيطة يمكن لأي مواطن أن يصل إليها ويفهمها ويستوعبها، سوف ندرك أن الوقت ليس وقت ممارسة أي شكل من أشكال المزايدات، ولا أي شكل من أشكال ” التشياربالمسؤوليات” بشكل غير منضبط، ولا الاستخفاف بقرارات السلطات، ولا ممارسة الأنانيات الفئوية، وغير ذلك.

اليوم علينا جميعا، وخاصة الموظفين المطمئنين إلى أجورهم الشهرية، أن نستعد لقرارات قاسية، ونتعامل معها بروح رياضية عالية تجسد روح التضامن الذي ما نفتأ نرفع شعاراته ونعطي فيه الدروس. علينا أن نتوقع تخفيضا تدريجيا لأجورنا، وعلينا أن نتوقع لجوء الدولة إلى الديون بكثافة لحماية تلك الأجور من الانهيار، وحماية النسيج الاجتماعي من الانفجار. وعلينا أن نتجند للتضامن مع الفئات الهشة أكثر مما نفعل اليوم.. علينا كل ذلك لأننا لسنا أمام تدبير حكومي عادي في ظروف عادية، بل نحن في وضع استثنائي تنهار فيه الانتمائات والتموقعات والأنانيات، لإنقاد الوطن وحماية المواطنين.. ومن يريد وقف هذا التهديد فما عليه سوى “البقاء في منزله”.. باختصار لأننا نعيش قضية وطنية بكل المعاني النبيلة التي تحملها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *