نتنياهو.. حين يتحول البقاء السياسي إلى مجزرة دائمة

بينما تبحث الشعوب عن حياة أفضل، يبحث بنيامين نتنياهو عن حرب أطول. ومنذ السابع من أكتوبر 2023، لم يعد ثمة شك أن الرجل لا يقود إسرائيل بقدر ما يحتجزها رهينة داخل قفص حكمه الحديدي، مدفوعًا بهوس البقاء السياسي ولو فوق أنقاض غزة وجماجم أطفالها. في عالم يزداد وعيًا بمفاهيم العدالة الدولية، يصر نتنياهو على أن يكتب تاريخه بالبارود والتجويع، مستثمرًا كل قذيفة لإطالة زمن حكمه.
منذ صعوده إلى السلطة، بنى نتنياهو سرديته على ثنائية التخويف والتدمير: “أنا الحامي الوحيد من الخطر الإيراني، وحماس ذراع طهران في الجنوب”. هذه المعادلة الزائفة، وإن نجحت في مرحلة ما في صناعة الزعيم، باتت اليوم الغطاء الأكثر دمويّة لواحد من أفظع المشاريع العسكرية في العصر الحديث.
الحرب على غزة، بكل مستوياتها، لم تكن أبدًا فعلًا دفاعيًا كما يزعم، بل خطة مدروسة لإشعال شرق أوسط لا تهدأ نيرانه. الرجل لا يرى السلام مكسبًا سياسيًا، بل خطرًا على حياته السياسية. فكل وقف لإطلاق النار يعني اقتراب نهايته. وكل مفاوضات حقيقية تهدد سقوطه، لا سيما وهو ملاحق جنائيًا داخل إسرائيل وخارجها.
للمرة الأولى في تاريخ إسرائيل، يتهم المجتمع الدولي رئيس وزرائها باستخدام سلاح الجوع كسلاح حرب. تقارير المنظمات الأممية وثّقت استخدام نتنياهو الحصار الغذائي بشكل ممنهج، ورفضه إدخال المساعدات، حتى في ذروة الكارثة الإنسانية. التجويع هنا لم يكن نتيجة عرضية للحرب، بل استراتيجية متعمدة لإخضاع سكان غزة، لكسر إرادتهم، ولإجبار المقاومة على الاستسلام تحت ضغط المعاناة الإنسانية.
وإذا كان التاريخ سيذكر شارون كمجزّر صبرا وشاتيلا، فسيذكر نتنياهو كمُخرِج حصار القرن، حيث يموت الأطفال عطشًا، وتدفن الجثث في ملاجئ الأمم المتحدة، ويتم قصف النازحين وهم يحتمون بخيام أنشأها العالم لا الاحتلال.
داخل إسرائيل، لم تعد المعارضة تصرخ ضد الحرب فقط، بل ضد من يخوضها. أكثر من 40% من الإسرائيليين يؤمنون أن نتنياهو يُطيل أمد الحرب لأسباب سياسية داخلية، لا أمنية. جنرالات سابقون، وقيادات أمنية حالية، يهمسون بأن الرجل فقد البوصلة، ولم يعد يسأل عن اليوم التالي، لأنه لا يريد أن يأتي.
الخوف الذي يستثمره نتنياهو ليس من حماس، بل من صناديق الاقتراع. أي سلام حقيقي يعني فتح التحقيقات في فشل السابع من أكتوبر، في سوء إدارة الحرب، في فضيحة الاستخبارات، في تدمير العلاقة مع الولايات المتحدة، وفي عزل إسرائيل عن شركائها الأوروبيين. لذلك، يجب أن تستمر الحرب، مهما سقط من الضحايا، لأن البديل الوحيد لها هو محاسبة من أشعلها.
رغم الدعم الأميركي التكتيكي، فإن الرأي العام الغربي بدأ ينقلب. أوروبا، للمرة الأولى، باتت منقسمة بشكل علني حول سلوك إسرائيل. دول مثل إسبانيا، أيرلندا، وبلجيكا، طالبت علنًا بمحاكمة نتنياهو كمجرم حرب. فرنسا تعترف بالدولة الفلسطينية. السويد تتحدث عن تمييز عرقي في المعاملة مع الفلسطينيين. حتى في ألمانيا، الحليف التاريخي، بدأ الصوت الشعبي يتساءل: إلى متى نبرر القتل الجماعي باسم “حق الدفاع”؟
لا يتعلق الأمر فقط بالرأي العام، بل بالمنطق الأخلاقي الذي بات يُحرج النخب الغربية. كيف يمكن المطالبة بدعم أوكرانيا ضد روسيا، بينما يتم السكوت عن استخدام الطائرات الإسرائيلية لقصف مخيمات اللاجئين؟ كيف نبرر أن يُحاصر شعبٌ ويُمنع عنه الدواء والغذاء، لمجرد أن حركته السياسية تقاتل؟ وكيف نسمح لمجرم مدان سياسياً وقانونياً، مثل نتنياهو، أن يدير حرباً ويستغلها لعرقلة أي عملية سلام؟
للمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي–الإسرائيلي، يجد رئيس وزراء إسرائيلي نفسه مطلوبًا للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. مذكرة التوقيف التي أصدرها مدعي المحكمة في لاهاي لم تكن نتيجة ضغوط سياسية، بل نتيجة تحقيقات دقيقة وشهادات موثقة تشير إلى ارتكاب جيش الاحتلال، بأوامر سياسية مباشرة، انتهاكات فادحة للقانون الدولي الإنساني.
المجتمع القانوني الدولي لم يتعامل مع غزة كحالة نزاع تقليدي، بل كميدان لجرائم منهجية: استهداف المنشآت المدنية، استخدام الحصار كسلاح، قتل جماعي لمدنيين لم يشاركوا في القتال، ومنع متعمد لإدخال المساعدات الإنسانية. كل هذه الأفعال لم تُترك لمجرد الإدانة الإعلامية، بل تحوّلت إلى ملف قانوني تحرّكه المحكمة بصفتها الجهة الأعلى في محاسبة من يتجاوز الخطوط الحمراء للإنسانية.
نتيجة هذه الملاحقة القضائية، بات نتنياهو عمليًا مُقيد الحركة دوليًا. عدد من الدول الأوروبية، ومنها بلجيكا وإسبانيا والنرويج، أعلنت رسميًا أنها لن تستقبله على أراضيها ما دام ملاحقًا جنائيًا. هذه ليست مجرد مواقف رمزية، بل بداية تحوّل ملموس في التعاطي الدولي مع من كانوا يتمتعون سابقًا بحصانة “الواقعية السياسية”.
بل إن تقارير دبلوماسية أكدت أن بعض العواصم الأوروبية ألغت اجتماعات كانت مقررة مع مسؤولين إسرائيليين خشية أن تفسر كمحاولة لـ”شرعنة المتهم الأول بجرائم غزة”. وأصبحت زيارة نتنياهو تمثل إحراجًا لأي حكومة تستقبله، وتهديدًا لعلاقاتها مع مؤسسات حقوق الإنسان والمجتمع المدني في بلدانها.
نتنياهو اليوم لا يقود إسرائيل كدولة ذات سيادة فاعلة، بل ككيان سياسي محاصر على المستوى الأخلاقي والقانوني والدبلوماسي. لم تعد صورته في المحافل الدولية تلك الخاصة بـ”الخطيب اللامع في الأمم المتحدة”، بل بصورة الرجل المنبوذ، المشتبه فيه، الذي تلاحقه أصابع الاتهام من غزة إلى لاهاي.
في الأروقة المغلقة للسياسة الأوروبية، باتت إسرائيل تحت حكم نتنياهو تُقارَن علنًا بجنرالات حروب البلقان في التسعينيات، وبأنظمة استبدادية استخدمت شعوبها دروعًا لأغراض البقاء السياسي. وهي مقارنة لم تكن واردة قبل سنوات، لكنها اليوم تطرح بقوة في تقارير مراكز القرار والتفكير الاستراتيجي الغربية.
التاريخ لا يرحم، والسياسة لا تضمن البقاء. بنيامين نتنياهو اليوم ليس في موقع القوة، بل في قمة الهروب. يُقاتل على جبهات متعددة: في غزة، ضد الحقيقة؛ وفي تل أبيب، ضد خصومه؛ وفي لاهاي، ضد المحاكم الدولية. لكن الأهم من كل ذلك، أنه يُقاتل الزمن… وهو صراع لا يربحه أحد.
إن نهايته، التي يعتقد أنها ستكون مشهدًا بطوليًا يليق “برجل حديدي”، ربما لن تكون سوى محاكمة جليّة تليق بمجرم حرب. لن تكون كاريزمية ولا سياسية، بل قانونية، بصمت العدالة الدولية، تمامًا كما انتهى سلوبودان ميلوشيفيتش: ليس في ميدان المعركة، بل في قفص الاتهام.
من يتحدث باسم غزة؟
ليس الفلسطينيون وحدهم من يواجهون نتنياهو اليوم، بل ضمير الإنسانية. القضية لم تعد مجرد صراع محلي، بل امتحان عالمي للعدالة، والمبادئ، والمجتمع الدولي. ومَن يلتزم الصمت، شريك بالجريمة.
آن الأوان أن يُسمّى هذا الرجل باسمه الحقيقي: عدو السلام، ومهندس الجريمة، ورجل يكره الحياة لأن وجوده لا يكتمل إلا بالموت.
اترك تعليقاً