وجهة نظر

في العزلة ولست وحيدا

أمر بطولي أن نتعامل في البيت مع وضع الحجر الصحي بحزم والتزام.. خاصة وأن حساسية اللحظة غير مسموح لنا فيها بأن نتهاون أو نستهتر.. بقدر ما يجب علينا أن نعمل على تنفيذ جميع الأوامر والتوجيهات الصادرة بخصوص مواجهة وباء كورونا بصرامة ومهنية عالية.

نستيقظ من النوم صباحا.. نقوم بغسل أيدينا بالصابون والمعقمات الكحولية.. نغسل وجوهنا كذلك.. شعر رأسنا.. ثم نؤدي التحية العسكرية أمام أمهاتنا العزيزات.. ضابطات الحجر الصحي في المنزل.. السيدات العظيمات والقائدات الصارمات حقا.. نتلقى جديد الأوامر والمستجدات الميدانية التي يحصلن عليها من مجموعات الواتساب وبرامج التلفاز.. يبدأن بسرد التعليمات: “قراءة الورد اليومي من القرآن الكريم، الحرص على الوضوء قبل كل صلاة، بإمكان ذلك أن يحميكم من الفيروس.. أقراص الفيتامين (C) فعالة لتجنب العدوى.. تناول الليمون يوميا سيجعلكم في أمان…”

هذا بالنسبة لمن ينعمون بالجلوس إلى جانب أحبابهم وأسرهم تحت سقف واحد، أما أنا، فإنني هنا في العاصمة، أعيش وحيدا في عزلة.

لكن بالنظر إلى الواقع، أجد أنه لا يحق لي أن أقول عن نفسي بأني وحيد.. فمن سخرية القدر أنني وصلت لمرحلة غدت فيها عُزلتي هاته ترفا ما بعده ترف.. عزلة مليئة بجموح الأفكار والسيناريوهات العجيبة.. حيث الكثير من القراءة وقليل من الكتابة.. الكثير من التأمل والسفر الغرائبي من دون أن أكون مضطرا لمغادرة غرفتي التي أقيم بها كل ليلة حفلة باذخة، تحضرها شخصيات مرموقة:

نجيب محفوظ برفقة سعيد مهران الذي خرج لتوه من السجن بعد ما قضى أربعة أعوام بسبب جريمة سرقة (رواية اللص والكلاب).. جبران خليل جبران وهو يجر معه عجلة من عجول (يوحنا المجنون) التي عرت سلطوية رهبان الدير، وانتقدت ثنائية الجمع بين المال والسلطة (الدينية/ السياسية) في قصة يوحنا حين انتفض -الأخير- في وجه الرهبان قائلا: “هل يبيع الفقير حقله منبت خبزه، ومورد حياته، ليضيف ثمنه إلى خزائن الدير المفعمة بالفضة والذهب؟”.

عباس محمود العقاد وهو يقدم لي مصطفى لطفي المنفلوطي، واصفا إياه بأبي المساكين والبائسين، الذي تسيل “العَبَرات” من قلمه الطيع.

محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي، وهما يتنازعان حول تفكيك بنية وتكوين العقول العربية… إلخ. جميعهم بجانبي لا يسأمون من إجابة أسئلتي في كل ليلة.. نفس الأسئلة ونفس الأجوبة والشغف ذاته.

في كل ليلة، صرت أدعو كاتبا لوحده.. أو مع شخصية من شخصياته أو اثنتان.. وفي النادر ثلاثاً.. لنتسامر.. ونتدارس التجارب.. ونكشف أسرار بعضنا البعض.. ونحصي أوجه الشبه بيننا.. ونستدعي ذكرياتنا الهاربة.. ونتبادل أطراف الحديث بلعب لعبة (سؤال/ جواب).. حتى ينتهي السمر الليلي، بمجرد انطفاء الأنوار، ليهمس صوت خافت من تحت الغطاء قائلا: “عودوا غدا ولا تنسوا الاستعداد للإجابة عن أسئلتي المعتادة.. وإياكم أن تفقدوا شيئا من حماسكم!!”.

لهذا السبب.. أجد أنه لا يحق لي أن أدعي بأنني وحيد..كيف يكون ذلك.. وغرفتي يزورها كل هؤلاء الأصدقاء الكبار والعظماء؟!

إن عزلة مثل هاته، في زمن الكورونا أو غيره، حتى وإن كانت لمائة عام كما هي عزلة “آل بوينديا” في قرية “ماكوندو” من رواية غابرييل غارسيا ماركيز العالمية، لا ضجر فيها ولا قنوط.. بل على على العكس من ذلك، غالبا ما ستجعلك تحس بأنك خالد وقادر على الوصول لقاعدة البيانات الكبرى، لحقيقة الأشياء، وفك شفرتها، ومعرفة كل الخطط المرسومة لنا لكي نبقى ضعفاء، قابعين في الدرك الأسفل من العالم…

أمر بطولي حقا، أن تعيش عزلة اكتشاف الذات بعيدا عن جحيم الآخر، كما يرى “جون بول ساتر”، وتستثمر زمن الأزمة لتخرج منها أقوى من ذي قبل.

أنا مثلا، اكتشفتُ خلال هذه الأيام القليلة أشياء غريبة، ألاحظها لأول مرة: اكتشفت أن عدد المخدات في المنزل لا يتساوى مع طول “السداري”.. إذ هناك مخدتان ناقصتان.. العنكبوت التي كانت تقبع وحيدة في زاوية سقف الغرفة قبل أسبوع أصبحت لديها عائلة كاملة اليوم.. العنكبوت هي الأنثى طبعا.. والعنكب هو الذكر.. هذا ما تقوله “ويكيبيديا”.. إنه ليس كلاما قلته من رأسي.. لقد اكتشفت أيضا أن كاميرا الهاتف الأمامية ليست منصفة.. إنها تُضخم الأنف أثناء التقاط صورة “السيلفي”.. لذلك يبدو كبيرا.. وهذا غير حقيقي البتة.. صدقوني.. جربوها الآن وسترون ذلك!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *