منتدى العمق

امتحان المحن للقطاعات الأساسية لاستمرار المجتمعات

منذ الأزل والبشرية تتعرض لمجموعة من المحن التي لها ارتباط وثيق بالسيرورة الطبيعية للحياة. وخلال كل محنة كانت البشرية تتكبد خسائر أقل ما يقال عنها أنها خسائر فادحة قد تكون على المستوى الاقتصادي أو الديموغرافي، إضافة الى ذلك أنها تمكن الإنسان من تعلم مجموعة من الدروس التي تثبت له كل مرة أنه لا يساوي شيئا أمام الطبيعة. لكن الأهم من هذا كله أنه بسبب هذه المحن أصبح الإنسان على ما هو عليه الآن.

لعل من بين المحن العديدة التي نمر بها الآن هذا الوباء القاتل الذي وقفت البشرية على عجزها وضعفها أمامه. هذا الوباء الذي تمكن من كشف واقع مر. واقع قطاعات كنا نظن أننا قد أعطيناها الجهد الكافي، قطاعات كنا نظن أن العاملين بها يأخذون كامل حقهم، بل وزيادة، وأنهم ليسوا سوى جنود الصف الثاني أو الثالث ضمن جيش التغلب على مصاعب الحياة، تاركين الصفوف الأولى للفنانين والرياضيين. لكن بمجرد أن حل الضيف الغير مرغوب فيه، حتى أثبت لنا وبالملموس أنهم هم الأشخاص الذين يملكون المفاتيح الرئيسية لقطار الحياة الهنيئة.

للأسف طوال سنين كان الإنسان يتقدم ويسعى بشكل سريع نحو بلوغ قمة هرم “ماسلو”، ظانا أنه قد تمكن من ضمان حاجاته الأساسية المتمثلة في السلامة الجسدية والأمن الصحي، وأنه قد أعطاها كامل حقها بشكل يجعل منها أمرا مضمونا على المدى القريب والمتوسط وقادرة على الاستجابة لكل حاجياته في كل الظروف، منتقلا إلى أمور أخرى متعلقة أساسا بالترفيه والكماليات، لدرجة أنه خلال كل فترة ومرحلة كان يظن أن قد قصر في ذلك الجانب محاولا إيجاد أساليب وطرق أخرى لتجويد مستوى الرفاهية لديه. إلا أنه وبمجرد سقوطه في أول امتحان، حتى يعلن عن فشله، ليبدأ من جديد في عملية تحسين مستوى القطاعات والمرافق الأساسية التي ستضمن له على الأقل الحياة بغض النظر عما إذا كانت هذه الحياة سهلة أو صعبة.

لطالما كان قطاعي الصحة والتعليم من بين القطاعات الأساسية في حياة الإنسان إن لم نقل أهمها. فهذه القطاعات هي التي تستطيع رسم خارطة مستقبل البلدان ومرتبتها على المستوى العالمي، وإعطاء صورة سريعة ودقيقة لدرجة وعي ذلك المجتمع. هذه القطاعات التي تمكنت الدول المتقدمة من إعطائها كل الموارد والقوى، وتسخير كل جهودها وطاقاتها من أجل النهوض بها، على اعتبار أنها لم تصبح متقدمة إلا بهاذين القطاعين. فيما تضل دول أخرى ورغم الثغرات الفادحة في بنياتها التعليمية والصحية، تولي أولوية واهتماما منقطع النظير بأمور من الممكن التنازل عنها من دون حتى الإحساس بفقدانها أو بأي نقص، أو على الأقل اعطاؤها أهمية أقل. ففي هذه الظروف لم أسمع بمغني ارتدى بذلة واقية ودخل إلى غرفة إنعاش من أجل اسعاف شخص بين الحياة والموت، أو لاعب معتكف في مختبر يبحث عن دواء أو لقاح لهذا الداء، أو راقصة تدرس أبنائنا وبناتنا مضحية بوقتها وجهدها من أجل تكييف الدروس ليتم تلقيها عن بعد، رغم ما يتقاضونه من مبالغ خيالية أمام أجور هزيلة لأشخاص يضحون بحياتهم من أجل أن تعيش البشرية.

بعد أ ينتهي هذا الامتحان و يعود الاستقرار و الحياة إلى سابق عهدها، أظن أنه عند إذ يكون قد حان الأوان للدول أن تعيد ترتيب أوراقها واهتماماتها فيما يخصص متطلبات الشعوب من أجل النجاة من محن الحياة، ويكون قد حان الوقت لإعطاء كل ذي حق حقه بناء على ما يساهم به في نمو وازدهار المجتمع، فبعد أن نعطي للطبيب والأستاذ والشرطي والفلاح حقهم، والتأكد من أن القطاعات الأساسية قد أصبحت جاهزة على الأقل للتصدي لامتحانات متوسطة الصعوبة، عند إذ نستطيع الانتقال إلى الفنانين والرياضيين، والاهتمام بالكماليات، فالحياة أولا ثم طريقة عيشها ثانيا، ثم الاستمتاع بها ثالثا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *