منتدى العمق

جائحة “كورونا” والرسائل الربانية

لا حديث في وسائل الإعلام المحلية والوطنية والعالمية، إلا عن آخر مستجدات وباء كورونا المستجد، بقدرة مدبر هذا الكون الممتد، يتحول سكان هذا الكوكب الأزرق الصغير إلى مشاركين متفاعلين أو متفرجين منصتين بإمعان في مائدة مستديرة انعقدت بدون سابق إعلام ولا إخبار حول موضوع واحد، مائدة فكرية، علمية، عالمية مفتوحة في وجه الجميع، نستقي منها رسائل ربانية ثلاث على الأقل:

الرسالة الأولى: كلكم لآدم

تذوب كل الفروق العرقية والإثنية واللغوية والطبقية والثقافية، وتُنسى أو تتناسى كل الخلافات السياسية، وكل الصراعات المذهبية والإيديولوجية… لتستعيد البشرية جميعا حقيقة الأصل الواحد، والنبع الواحد، والقبضة الطينية الواحدة، وتبدو الحقيقة القرآنية ساطعة جلية: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم.”، ولتؤكدها خطبة حجة الوداع الفيحاء الرنانة: “أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى…”، لتضرب عُرض الحائط كل فلسفات التميز والعنصرية والشعور بالتفوق والاستعلاء…

هذه الوحدة الجامعة المفقودة المغتصبة بسبب جهل الإنسان وتعنته وتجبره واستعلائه وغروره، تعود مع هذه الجائحة الوبائية التي أكدت أن الأصل في المجتمع البشري هو “التعارف” لا “التنافر” ، “التواصل” لا “التقاطع”، “التحاب” لا “التحاقد والتباغض”، “التعاون والتضامن والتفادي” لا “الأنانية والفردانية والمصلحة الشخصبة” … وباء كورونا جعل الناس كل الناس يئنون لأنين بعضهم بعضا، يتهافتون على نشر وإذاعة وتقاسم وتقبل وتفهم وتفسير كل ما من شأنه الوقاية والحماية من الإصابة بهذا الخطر الداهم… الوباء الجارف الذي لا يفرق بين الوزير وحارس الأمن الخاص، ولا بين الغني والفقير، ولا بين الأبيض والأسود، ولا بين العالم والجاهل، ولا بين المسلم والكافر… يجعل البشرية جمعاء كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وهذه لعمري من أعظم آيات الله الكونية…

الرسالة الثانية: كلمات ربي

منذ عصر الأنوار الأوروبي، أعلنها حربا شعواء ضد الدين، إنه خرافة كانت تبرر الظلم والاستبداد، وتمنع منعا قاطعا من حرية التفكير والتعبير، وتحكم بالإعدام على كل من سول له عقله التفكير خارج الدوائر المرسومة سلفا، كسر العقل العقلي طوقه، وانطلق بعدما أخرج العملاق من قمقمه، انطلق نحو آفاق الفتوحات العلمية والتكنولوجية غير المحدودة وغير المسبوقة وغير المتوقعة أيضا، واقتحم كل العوالم التي كانت أشباحا والغازا تنتظر حلولا: عالم البحار، عالم الأجرام والأفلاك، عالم السماوت، عالم الذرات، عالم التواصل، عالم النفس البشرية، عالم الجينوم البشري، عالم الدماغ البشري بأسراره وأغواره… ولم يقف عند حدود بعينها، وأطلق العنان لطموحه اللامحدود، بعدما ألغى فكرة المستحيل، فاقتحم عالم الاستنساخ البشري، ودخل في خطط لمواجهة عالم الموت وصناعة إكسير الخلود، والبقية سوف تأتي…

تاه العقل الغربي إعجابا بنفسه وبفتوحاته الأسطورية، واعتقد جازما أن لا وجود لقدرة تضاهي قدرته، ولا وجود لإله يدبر هذا الكون، وهل ثمة إله يكافئ هذا الاله/العقل…

يبعث الله عز وجل هذا الجندي الخفي “وما يعلم جنود ربك إلا هو”، ليحرج هذا العقل المتأله من ضلاله، وليجعله يقف وقفة يحاسب من خلالها نفسه قليلا، وليذكره بقصة موسى كليم الله عليه السلام عندما سأله قومه: “يا موسى من أعلم أهل الأرض؟”، ليعلمه الله ويعلمنا من خلاله أعمق وأجمل دروس التواضع في طلب العلم، “قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي، لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدادا.”.

العقل الغربي المعتد بنفسه حد جنون العظمة، أعلنها حربا شعواء ضد الغيب/الوحي، ولكن الحقيقة أن فهمه سيبقى قاصرا وجاهلا وعاجزا، وستبقى فتوحاته العلمية عوراء، وإنجازاته التكنولوجية عرجاء، مادامت تنظر بعين واحدة، وتمشي بقدم واحدة… مادامت تلغي القوة الخالقة والمدبرة لهذا لكون، ومادامت تسعى فقط لإشباع النهم البشري، والجشع الإنساني اللذين لا ينتهيان أبدا…

الرسالة الثالثة: إنه ملاقيكم

حالة من الذعر والهلع تعيشها كل شعوب العالم، الذعر من الموت الذي نعته الحبيب المصطفى بأنه “هادم اللذات ومفرق الجماعات”… الموت الذي يقض مضجع الأحياء جميعا، أصبح موضوع الساعة بامتياز، الموت النهاية المحتومة التي تنتظر الأحياء جميعا، ينتشر هذا الوباء العالمي ليذكر بالنبأ العظيم، كفى من الانهماك في حب شهوات الحياة الدنيا التي أعمت البصائر، لا داعي للتأسف على الدنيا الزائلة، لا مفر من قبضة الموت، “قل إن الموت الذي تفرون منه، فإنه ملاقيكم تردون غلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون.” )الجمغة/8( …

خلاصة القول… أيها الإنسان الذي اختار طوعا أن يتحمل الأمانة، أيها الإنسان الذي فضله الخالق على الملائكة الذين يسبحون بحمده ويقدسون له ويطيعونه ولا يعصونه إطلاقا، أيها الإنسان الذي نعته خالقه ب “العجوز، والظلوم، والجحود…”، أيها العبد الآبق عد إلى مولاك…آن الأوان لتعود إلى رشدك، آن الأوان لتراجع حساباتك، آن الأوان لتتخلى عن جبروتك، وغرورك، وكبريائك، وعن غيك وظلمك وتسلطك وجشعك الذي لا ينتهي… آن الأوان لتعود إلى حجمك الحقيقي، آن الأوان لتعلنها توبة نصوحا … ولتتمثل قول الحق عز وجل: “وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون” …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • عبدالله
    منذ 4 سنوات

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. من فضلكم المرجو تصحيح الآية التالية: اعوذ بالله السميع العليم وبوجه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمان الرحيم قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) صدق الله العظيم في آخر الآية [مددا]و وليس [مدادا] شكرا جزيلا.