وجهة نظر

لماذا أقرأ ابن عربي في زمن كورونا؟

أولًا، هربًا من الأخبار المتقاطرة كالجَودِ المنهمر حول الإصابات والموت والحظر والكمامات… حين يباغتني القَنَطُ وتشتد كُرْبَتي، منعزلًا، وحين يغزوني الجَزَعُ، شجىً وغمّا، أهرول إلى “الفتوحات المكية” لأتيه في غياهب المعنى الرباني والإشراق الفكري في فضاء الفلسفة والتصوف…

ثانياً، لأنه حين مرِض ابن عربي مرضا وابلاً وهو شاب، “رأى في المنام”، وهو محمومٌ ساخنَ البدن، “أنه مَحوطٌ بعدد ضخم من قوى الشر”، ثم فجأة ظهر رجل وسيم ولكنه قوي، فَتَكَ بقوى الشر حتى صارت في خبر كان. لما سأله محيي الدين من أنت، قال له إنه سورة ياء سين، فاستيقظ على والده يرتل نفس السورة. (المرجع : “موقع معرفة.أورغ). أقرأُ سورة يس في زمن كورونا فأجد شذرات عن السر الرباني للكون: “وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)”.

ثالثا، يقع كتاب “الفتوحات المكية” في 37 سِفْراً ويحتوي كل سفر على حوالي 300 صفحة، أي أن الكتاب يقع في حوالي 12000 صفحة واستغرق محيي الدين في كتابته حوالي أربعين حَوْلاً (بداية القرن السابع الهجري الموافق للجزء الأول من القرن الثالث عشر ميلادي). كان ابن عربي غزيرَ الإنتاج، فيضٌ فكري ناهز الثلاثمائة متن، و حتى القاريء المتخصص يجد صعوبة في قراءة وفك ألغاز كتاب “الفتوحات”؛ لهذا يلجأ الكثير إلى ملخصات الإمام الشعراني وتراجم المقري وابن العماد وغيرهم. ولهذا أعتبر الكتاب بحرًا لا متناهي الشطئان أسبحُ من أين شئتُ، خصوصا أبواب “الأحوال” و “المنازل” و “المنازلات” و “المقالات” أي سُبُلَ المعراج الرحماني، والتحقيقات الربانية ذات البعد الميتافيزيقي، والمستوى من الوصول الغير القابل للوصف، والترقي الروحي (لبيب الوافي باترامنا، “نبذة صغيرة عن كتاب “الفتوحات”.) لا يمكن قراءة هذا المتن الضخم إلا شذراتٍ، شذرات، فيضٌ من كم هائل، نور من حلول في السر الرباني، قطرات من لوغوس متعالٍ (كما يسميه محمد أركون). في زمن الخلوة بالنفس بعيدًا عن مكر الوباء تترك شذرات ابن عربي تنهمر عليك ودياناً وتسافر بك في فضاءات الكون و الأسرار والأفلاك الدائرة حول باطنٍ نوره يسطع حقيقة أبدية لا تظهر حتى للعارفين.

رابعًا، مفهوم “التحقيق” عند ابن عربي بُنِي على مقولة أبو إسحاق الكندي والتي يحدد بموجبها هدف الفلسفة على أنه الولوج إلى الحق. يقول وليام تشيتيك في كتابه “ابن عربي وريث الأنبياء” (2005) إن “التحقيق” يعني الولوج إلى “معنى وحقيقة الكون، والروح، وقضايا البشر، على أساس الواقع المتعالي، أي ‘الحق'” (موسوعة جامعة ستانفورد الأمريكية في الفلسفة). وهذا يعني أنك تتعرف على هذا “الحق المتعالي” في مظاهر الحق المتواجدة والمتمظهرة في خلق الله. والمحققون هم من يصلون درجة تحقيق كامل ل”إمكانات النفس الروحية والكونية والربانية” (نفس المرجع.) من يدري، ربما هناك حق لا ندركه في هذه الوقفة المدوية عبر المعمور، سر سندركه بعد انجلاء الغم والغيم، وسيلة لتحقيق ذواتنا غابت عنا قبل أن يصيبنا البلاء.

خامساً، مقولة “البرزخ” عند ابن عربي جاءت لتجيب على سؤال ابستيمولوجي حيَّر الفلاسفة منذ أرسطو وحتى رورتي: كيف تصل إلى الحقيقة الربانية وأنت بشر مفروض فيك أنك محدد زمانًا ومكانًا وليست لك قدرةٌ على فهم الخلود الرباني اللامتناهي؟ والبرزخ هو الحد كما في سورة الرحمان: ” مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقيانِ . بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ “. يقول ابن عربي إن البرزخ “هو العالم المشهود بين عالم المعاني وعالم الأجسام » و “هو أمر فاصل بين معلوم وغير معلوم ، وبين معدوم وموجود…فإنك إذا أدركته وكنت عاقلاً تعلم أنك أدركت شيئاً وجودياً وقع بصرك عليه” (إحالات فاطمة حسن الجعفرى “لسان الحال أبْيَن من لسان المقال“، مستشهدة كذلك بالدكتورة سعاد الحكيم. من أجل دراسة فلسفية عميقة لمقولة “البرزخ” انظر سلمان بشير “برزخ ابن عربي: مفهوم الحدود والعلاقة بين الله والعالم” منشورات جامعة نيويورك).

البرزخ، خيالٌ، طيف فاصل، إدراكْ غَيْرَ إدراك المعلوم واستبطان المجهول، لحظة شاعرية ولكنها شذرة عرفان وحلول، معرفة ما لا يمكن إدراكه. في زمنٍ حاصرنا فيه وباء غير مرئي أرتكنُ إلى التفكير والتأمل في أسرار الكون، انتظر برزخًا، رؤيا تعطيني جوابًا، أمل وترقب في لطف ورحمة ستنزل بردًا وسلامًا على الخلق والعباد.

سادسا، يقول ابن عربي “لن تبلغ من الدين شيئاً حتى توقر جميع الخلائق”. كيف نقول بالإيمان والتدين ونعيث في الطبيعة تدميرا: نضرب البهيم، ونستضعف المطي، ونرجم ونعذب خلق الله قططًا وكلابا وحميرأ، ونقتل الفيلة من أجل قرونها والنمور من أجل جلدها والدببة من أجل فروها، ونقتلع الأشجار ونحرق الغابات، ونلوث الأرض والماء…عجرفة الإنسان ظانّاً أنه سيد الطبيعة وهو جزء منها؛ غرور وجبروت…عدو صغير، مجهري، فتاك، جعلنا، رغماً عنّا، نتساوى في الحجر، ندخل البيوت لتنعم المخلوقات الأخرى بالحرية من بطش الإنسان، من سوطه القاسي على البهيم، على خلق الله. لن تبلغ من الإيمان شيئا حتى تؤمن بوقار ما خلق الله.

سابعاً وأخيراً، يقول ابن عربي “الحُكْم نتيجة الحِكمة، والعلم نتيجة المعرفة، فمن لا حكمة له لا حُكْمَ له، ومن لا معرفة له لا علم له.” المتهورون والمتعجرفون والمغرورون من الحكام جروا ويلات على شعوبهم، وذوي الحكمة غلَّبوا مصلحة الأوطان والعباد. الوباء عدو قاتل وليس بالخطب الرنانة ولا بالوقوف أمام عدسات الكاميرات تقاتله ولكن بالتروي وتغليب مصلحة العباد، بالرحمة والمغفرة وسداد الرأي. وليس بالأخبار الكاذبة ولا الحلول المشعوذة نقاربه ولكن بالعلم والعلم والعلم. “وَ ما أوتَيْتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلاّقَليلا” (الإسراء، 85). صدق الله العظيم.

* وزير سابق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • فتيحة المؤدن
    منذ 4 سنوات

    مقال رائع،أسلوب جميل جدا ،أبهرتني كتابتك يا أستاذ،قرأتها وأعدت القراءة لمرات متعددة،تحليل جيد لأفكار الفيلسوف ابن عربي،تحليل يظهر من خلاله ذكاءك وعبقريتك في جعل نظرية ابن عربي وأقواله تنطبق على ما نؤول إليه اليوم،أرفع لك القبعة ياسيدي وأتمنى المزيد من مقالاتك المفيدة ،والتي على هدا الشكل.