منتدى العمق

تحرير محل النزاع في قضية الردة وحرية المعتقد

من خلال النظر في قضية الردة وعلاقتها بحرية المعتقد وما قيل فيها قديما من قبل الفقهاء والمحدثين والمفسرين يتبين أنهم ما نظروا إليها نظرة كلية أصولية مقاصدية، بل كل ما فعلوه أنهم اعتمدوا فيها على نظرة جزئية لم تخرج في مجموعها عن اعتماد نص واحد هو حديث: ” من بدل دينه فاقتلوه ” وكأنه لا وجود لغيره من النصوص القطعية التي تفيد غير ما نص عليه من قتل لمن غير دينه، علما بأن لفظ ” دينه ” مجمل يحتمل كل دين. وهذا إشكال في حد ذاته. !!

والسؤال الذي لا جواب عليه هو؛ لماذا تم تغييب كل النصوص الثابثة في حق كل من اتهم بالردة وحكم عليه بحدها قتلا ولم يلتفت إلى قرينة البراءة التي تضمنها له باقي النصوص ؟ إذ لو نظروا في هذا النص وغيره مما في معناه ونزلوه في إطار غيره من النصوص الشرعية القرآنية أولا. وهي كلها قاطعة بحق الجميع في حرية الاعتقاد – ما داموا مواطنين مسالمين ولم يصدر عنهم ما يقطع بإجرامهم في حق المجتمع والدولة وثوابتها المنصوص عليها في وثيقة المواطنة الجماعية المشتركة ممثلة في دستور المدينة وما شابهه من القوانين المنظمة للعيش المشترك بين المسلمين وغيرهم من المختلفين في المعتقد الديني، – على قاعدة :﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ.﴾ ( البقرة: 256 ) ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ.﴾ و ﴿ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ.﴾ ( هود: 28) ( الكهف: 29 ).﴿ وما أنت عليهم بجبار.﴾ ( ق:45 ) و ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ.﴾ ( الغاشية: 22 ).

وقد ذكرت الردة في القرآن في أكثر من موضع ولم يذكر فيها حد ولا قصاص، مثل باقي المخالفات الشرعية من قتل وزنى وسرقة وحرابة بالاستقراء. منها قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُ.﴾ ( محمد: 270.)

وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ( المائدة: 54.)

وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلً ﴾ ( النساء:137.)

وقوله: ﴿ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ ( البقرة: 217.). فمن ارتد فلا عقوبة له في الدنيا وإنما هي مؤجلة إلى الآخرة.

وكذلك لو وضع ذلك النص المجمل في سياق غيره من النصوص والنوازل العملية المفسرة له؛ والمخالفة لظاهره؛ سواء في العهد النبوي أو في العهد الراشدي، أو ما بعده، لما تم إهدار دماء أبرياء لا يحصون كثرة.

منها؛ حديث:” لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنـي رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزانـي، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة.”

ومنها ما هو أوضح من سابقه دلالة؛ وهو: ” لا يحل قتل مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال: زانٍ محصن فيرجم، ورجل يقتل مسلمًا متعمِّدًا فيقتل، ورجلٌ يخرج من الإسلام؛ فيحارب الله ورسوله، فيقتل، أو يصلب، أو ينفى من الأرض.”

ومنها حديث:” لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان فإنه يرجم. ورجل خرج محاربا لله ورسوله؛ فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض أو يقتل نفسا فيقتل بها.”

ومنها؛ حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السَّلَمِيِّ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الإِسْلاَمِ، فَأَصَابَ الأَعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَجَاءَ الأَعْرَابِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، فَخَرَجَ الأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِنَّمَا المَدِينَةُ كَالكِيرِ، تَنْفِي خَبَثَهَا، وَيَنْصَعُ طِيبُهَ.” ولم يأمر بقتله وهو المتصرف يومئذ بالتشريع والإمامة والقضاء. !!!

ومنها عفوه صلى الله عليه وسلم عن من كان أهدر دمهم من المحاربين لله ورسوله بمختلف أشكال الحرب، وقد تراجعوا عن ردتهم؛ كعبد اللهِ بن سعْدِ بنِ أبي سَرحٍ وعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ. ولم ينفد فيهم ما توعدهم به من قبل. بل وقبوله بشرط قريش في صلح الحديبة؛ إذ تم التنصيص في وثيقة الصلح على أن من ارتد عن الإسلام لا يعاد إلى جماعة المسلمين، وقبل رسول الله بذلك، على الرغم من تحفظ بغض الصحابة، ولم يهدر دمه.

وما حدث به أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن نفسه مع عمر بشأن جماعة من المرتدين؛ إذ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو مُوسَى بِفَتْحِ تُسْتَرَ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَسَأَلَنِي عُمَرُ – وَكَانَ سِتَّةُ نَفَرٍ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ ، وَلَحِقُوا بِالْمُشْرِكِينَ – ،فَقَالَ:” مَا فَعَلَ النَّفَرُ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ؟ ” قَالَ: فَأَخَذْتُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ لِأُشْغِلَهُ عَنْهُمْ، فَقَالَ:” مَا فَعَلَ النَّفَرُ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ؟ ” قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، قَوْمٌ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ ، وَلَحِقُوا بِالْمُشْرِكِينَ ، مَا سَبِيلُهُمْ إِلَّا الْقَتْلَ ، فَقَالَ عُمَرُ:” لَأَنْ أَكُونَ أَخَذْتُهُمْ سِلْمًا ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ مِنْ صَفْرَاءَ أَوْ بَيْضَاءَ “، قَالَ: قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَمَا كُنْتَ صَانِعًا بِهِمْ لَوْ أَخَذْتَهُمْ؟ قَالَ:” كُنْتُ عَارِضًا عَلَيْهِمُ الْبَابَ الَّذِي خَرَجُوا مِنْهُ ، أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ ، قَبِلْتُ مِنْهُمْ ، وَإِلَّا اسْتَوْدَعْتُهُمُ السِّجْنَ.”

ومنها حادثة قُدومِ وَفْدِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ عَلَى عُمَرَ فَأَخْبَرُوهُ بِفَتْحِ تُسْتَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ؛ ثُمَّ قَالَ: هَلْ حَدَثَ فِيكُمْ حَدَثٌ ؟ فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا رَجُلٌ ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ فَقَتَلْنَاهُ. قَالَ: وَيْلَكُمْ أَعَجَزْتُمْ أَنْ تُطَيِّنُوا عَلَيْهِ بَيْتًا ثَلَاثًا، ثُمَّ تُلْقُوا إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا فَإِنْ تَابَ قَبِلْتُمْ مِنْهُ وَإِنْ أَقَامَ كُنْتُمْ قَدْ أَعْذَرْتُمْ إِلَيْهِ اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَشْهَدْ وَلَمْ آمُرْ وَلَمْ أرض اذ بلغني.”

وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ القارئ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَسَأَلَهُ عَنِ النَّاسِ فَأَخْبَرَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ عُمَرُ هَلْ كَانَ فِيكُمْ مِنْ مُغَرِّبَةٍ خَبَرٌ فَقَالَ نَعَمْ رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ قَالَ فَمَا فَعَلْتُمْ بِهِ قَالَ قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ فَقَالَ عُمَرُ أَفَلَا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيُرَاجِعُ أَمْرَ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ عُمَرُ اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ أَرْضَ إِذْ بَلَغَنِي.”

فكل هذه الروايات شاهدة بقول عمر وهو أمير المؤمنين: اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَشْهَدْ وَلَمْ آمُرْ وَلَمْ أرض اذ بلغه قتل كل من رتد عن الإسلام فردا كان أو جماعة؛ ما دام أنهم لم يشكلوا أي خطر عليه ولا على أمته.

وفي حوار طويل لأبي قلابة مع عمر بن عبد العزيز، بشأن سؤال إقامة الحدود؛ إذ قال:” فو الله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا قط إلا في إحدى ثلاث خصال: رجل قتل بجريرة نفسه فقتل، أو رجل زنى بعد إحصان، أو رجل حارب الله ورسوله، وارتد عن الإسلام.”

وعليه؛ فكل ما خالف هذا الأصل الكلي من حكاية قتل لهذا المرتد أو تلك المرتده من قبل هذا أوذاك الصحابي أو التابعي، فهي حالات أعيان لا دليل فيها بمفردها؛ لأنه ” إِذَا ثَبَتَتْ قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ أَوْ مُطْلَقَةٌ. فَلَا تُؤَثِّرُ فِيهَا مُعَارَضَةُ قَضَايَا الْأَعْيَانِ، وَلَا حِكَايَاتِ الْأَحْوَالِ.” وَلا أدل عَلَى ذَلِكَ مما تقدم من دلائل الكتاب والسنة ومأثورات السلف. وكما قال الشاطبي:” فَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْأُصُولِ أَنَّ قَضَايَا الْأَعْيَانِ لَا تَكُونُ بِمُجَرَّدِهَا حُجَّةً مَا لَمْ يُعَضِّدْهَا دَلِيلٌ آخَرُ؛ لِاحْتِمَالِهَا فِي أَنْفُسِهَا، وَإِمْكَانِ أَنْ لَا تَكُونَ مُخَالِفَةً لِمَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ الْمُسْتَمِرُّ.”

فالظاهر من هذه المرويات كلها أن المرتد عن الإسلام دون مفارقة للجماعة؛ ولا محاربة لله ورسوله؛ فهو حر في معتقده، ويتحمل مسؤولية ما اختاره. ومن المعلوم أنه ما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل مرتدا لدينه ولا أبا بكر ولا عمر، اللهم إلا من ارتد وأصبح محاربا لله ورسوله، فهذا وحده من يستحق القتل، أو الصلب، أو النفي من الأرض متى قدر عليه. وهو ما يفيد بأن كل من يشكل خطرا على النظام الإسلامي العام؛ كمن يؤسس حركة انفصالية تهدد وحدة الأمة، وتعرض نظامها العام للاضطراب. ومعلوم أن من ارتد ليصبح داعية إلى التمرد على معتقدات الأمة، وتبديل قيم المجتمع، وزعزعة الاستقرار، وتغيير نظام الحكم الإسلامي؛ فليس من العدل ولا من العقل تركه يعيث في الأرض الفساد؛ فهو أخطر ممن يقع في خيانة الوطن، ويتورط في المس بسلامة أمن الدولة، وتسريب أسرارها والتآمر عليها مع أعدائها؛ لضرب مصالحها وزعزعة استقرارها والإطاحة بها. ومثل هذا لا تسامح معه. وليس في العالم دولة تسمح بالنـيل من ثوابتها، وتبيح الاعتداء على مقدساتها، وترخص للعمل على تخريبها وتبديل مرجعيتها وقوانـينها وأنظمتها بدعوى حرية المعتقد والحق في تغيير الانتماء.

و إلا فلماذا تنص كل دساتير الدنـيا، ومواثيق جميع الهيآت والمنظمات والأحزاب، على ما تراه من الثوابت، وتحيطها بما يجعلها من” المقدسات “، وترتب على الإخلال بها أشد العقوبات، بحيث لا يجرؤ أحد على جعلها محل نقد أو مساءلة، فضلا عن أن يعيبها ويقدح فيها ويقدم على تبديلها بغيرها ؟!

أ ليس كل من يتجرأ عليها بسوء يعاقب عقابا شديدا طبقا للقوانـين والقرارات الجاري بها العمل في هذه الدولة أو تلك، وحسب نوع الإساءة المقترفة في حق هذه ” المعبودات ” أو تلك ” المحرمات” الحزبية أو الوطنـية أو الدولية ؟!

ولماذا يُشَنعُ -والحالة هذه- على الإسلام وحده متى جرم الردة وتابع المرتدين المتمردين المحاربين له ولأهله ودولته بدون عذر، ولا يشنع على غيره من القوانـين والأنظمة الوضعية؛ وهي تجرم المساس بحرمتها، وتتابع المخالفين لقوانـينها وقراراتها، وتعاقب المخلين بهيبتها والثائرين عليها أشد العقاب ؟

أليس من حق الإسلام أن يحافظ على كيانه العام؛ عقيدة وشريعة ونظام حياة ودولة أمة، كما تحافظ سائر القوانـين والأنظمة و” الدول الدهرية ” على كيانها بقوة الجيش والمخابرات والمساطر الجنائية وقوانـين الإرهاب والعقوبات الصارمة التي لا تقبل الاستئناف ولا تخضع للنقض ؟!

وبالجملة؛ إن من ارتد ولم يعلن عن ردته، ولم يجعل من نفسه داعية إليها، يعامل بحسب ما ظهر من سلوكه، وأمره إلى الله، شأنه شأن المنافق، الذي يظهر الإسلام ويخفي الكفر. فليس لأحد حق تفتيش القلوب، ومعرفة ما انطوت عليه من مقاصد. لأن أحكام الدنـيا تجري على الظاهر، والله يتولى السرائر، وأن لا مؤاخذة إلا بعمل بين، ولا حكم إلا بجريمة ثابتة بيقين، كما هو مقرر بالكتاب والسنة والإجماع.

وكل من اتخذ قراره بدخول الإسلام عن علم وحرية وإرادة، وجب عليه الانقياد له اختيارا أو إلزاما. لأن من التزم بشيء لزمه، ومن تراجع عما التزم به دون عذر من جهل أو عجز أو شبهة أو إكراه؛ فللقضاء الشرعي متابعته بما يراه مناسبا لردته من تذكير إيمانـي، أو توجيه علمي، أو تأديب تربوي، أو عقوبة زجرية. لأن المرتدين متعددين وليسوا سواء، وهذا مما لا خلاف فيه بين جميع العقلاء.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن كل ما وقع من قتل في تاريخنا للذين اتهموا بالردة أو الزندقة أو الإلحاد أو الخروج؛ لم يكن في الغالب الأعم قتلا بحق، وإنما كان قتلا سياسيا؛ ظلما وعدوانا؛ في حق كل من خالف مذهب هذه الدولة أو تلك. أو عارض جور هذا السلطان أو ذاك بكلمة حق. عملا بحديث:” سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله.”

وعليه؛ فليس من العلم ولا من العدل إلصاق تهمة تشريع القتل العمد العدوان بالإسلام في حق الأبرياء من المرتدين وغيرهم؛ بينما هو منها براء براءة الذئب من دم يوسف بن يعقوب عليهما السلام.

وهنا لا بد من وقفة مع مسألة الـحـريـة بـيـن الإطـلاق والتـقـيـيـد.

الحرية مطلقة هي كذبة مطبقة، أو قل: هي مجرد دعوى لاسندلها من الواقع المعيش؛ بل لا وجود لها. ولا يمكن أن تكون أصلا.وكل الدعاوى القائلة والمنادية بإطلاق الحريات؛ بلا حدود؛ لا ترضى ولا تقبل إلا بما تراه هي حريات، وترفض بالمقابل كل الحريات المخالفة والاختيارات العقدية أو التشريعية أو القيمية أو الفكرية أو الثقافية المعارضة لها !

فدعاة حرية المعتقد، يرضون بكل المعتقدات، ويعترضون على عقيدة التوحيد ويعملون على تهميشها وإقصتئها بالمرة!

ودعاة حرية الرأي يقبلون بكل الآراء، ويرفضون ويعملون على طمس كل ما جاء في الكتاب العزيز وصحيح السنن ! وما استفيد منهما من معارف.

ودعاة حرية القوانين يشيدون بكل بقانون وضعي، ويشنعون على أحكام الشارع الحكيم ويمنعونها من الحضور الفعلي على المستوى القانوني !

ودعاة تحرير النساء، يدعون لكل ما يحررهن من دينهن وأخلاقهن، ويعارضون كل من يقول بتدينهن وحشمتهن وحجابهن وعفافهن !

ودعاة الحريات السياسية؛ يرحبون بجميع التوجهات السياسية؛ لبرالية كانت أو اشتراكية أو قومية عنصرية … لتنخرط في تدبير الشأن العام، بينما يمانعون بقوة في تولي دعاة التوجه الإسلامي، ويضعون في طريقهم العراقيل، وقد يزجون بهم في غيابات السجون ويعرضونهم للتعذيب والقتل الجماعي كما هو معلوم من تصريحات من يقولون: أحكمكم أو أقتلكم. !

وقس عليه؛ ومن ثم فلا حرية مطلقة ! مهما ادعتها بعض التوجهات، ومهما رفعت لها من شعاراتها؛ فالواقع الملموس شاهد بنقيضها. ولا أحد ممن يؤمنون بالنقد العلمي الموضوعي.يستطيع أن يقول عكس ما هو كائن بالفعل. وهو ما يقتضي إعادة النظر في هذا الوضع المأساوي الذي لا يليق بكل العقلاء أن يقبلوا به أو يستمروا فيه، عملا بقاعدة:﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ.﴾ ( سبأ: 24 ) وهي القاعدة التي تعطي للمخالف أيا كان؛ الحق فيما يعتقده أو يفعله أو ينادي به ويدعو له دونما أي مصادرة أو إقصاء أو اتهام مسبق أو ملاحقة ومحاكمة بغير حق. على أساس أن يكون تعامله هو الآخر كذلك، وإلا فلا سبيل إلى التعارف والتفاهم والعيش المشترك الذي هو من أهم المقاصد الشرعية؛ لقوله تعالى:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا.” ( الحجرات: 13 ) مما يقتضي الاتفاق أو التراضي المشترك على وضع القوانين المنظمة لحق لجميع في الحرية طبقا للأحكام والقرارات الجاري بها العمل. وإلا فهي الفوضى والتسيب ومجتمع الغاب الذي يتنزه عنه العقلاء وكل الفضلاء من بني آدم. وذلك باعتبار أن الحرية هي القيمة الجامعة بين الاختيار والمسؤولية. فلا حرية دون مسؤولية، ولا مسؤولية دون حرية، ولهذا خلق الله الإنسان حرا وحمله مسؤولية اختياره. بما في ذلك الإيمان والكفر؛” فمن شاء فليومن، ومن شاء فليكفر ” فضلا عن غيرهما.

من هنا وجب تنظيم العلاقات الاجتماعية في جميع أبعادها الخاصة والعامة بقانون إلهي أو وضعي؛ كما قال مونتسكيو:” فالحرية هي حق صنع جميع ما تبيحه القوانين، فإذا ما استطاع أحد الأهلين أن يصنع ما تحرمه القوانين فقد الحرية، وذلك لإمكان قيام الآخرين بمثل ما صنع … ولا تكون الحرية مطلقا؛ إذا ما اجتمعت السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية في شخص واحد، أو في هيئة حاكمة واحدة … وكذلك لا تكون الحرية؛ إذا لم تفصل سلطة القضاء عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية …”وبهذا نكون قد حررنا محل النزاع في قضية الردة وحرية المعتقد. وبه تم البيان والسلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *