وجهة نظر

احتضار حياة

مسافة1 حائلُ الاشتهاء..!

تسَمَّرتْ مشدُوهةً إلى الشَّاشةِ الكبيرةِ وهي تُتابِعُ بانبهارٍ مثلَ زوجِهَا برنامجاً يتضمَّنُ وصلاتٍ إشهاريةٍ في إنقاصِ الوزنِ…تضمنت الوصلاتُ وصفات غذائية وحصص رياضية وخلطات وأدوية وعقاقير…فقد استهوَتها التَّغييراتُ الَّتي طرأَتْ على بعضِ الممثلاتِ والنُّجوم السينمائية..والنَّتائِجُ المبهِرةُ غير المتوقَّعَة في إنقاصِ الوزنِ…وأَذْعَنَت لكُلِّ الوصَفاتِ…

فهي حينَ تزحَفُ هُنا أو هُناكَ، تجدُ صعوبةً في التنَفُّسِ ولم تَعُدْ تستطيعُ صعُودَ السَّلاليمِ، كما أنَّ جِسْمَها بدأَ في التَّوَرُّمِ والانتفاخِ، والأغربُ من ذلك أنها كُلَّما تجرَّعتِ الأدويةَ ازدادَتْ سمنَتُها، كانت إحدى بناةُ أختها والَّتي تدرسُ في كليةِ الطب قد نصحتها أنه بالإمكان إجراءُ عمليةٍ جراحيةٍ تجميليةٍ تحدُّ من هذهِ السمنَةِ…، لكنها لم تحبِّدِ الفكرةَ، فحادثُ جارتها الغالية لا يبرحُ مخيلتها، حيثُ توفيتْ أثناءَ عملية تقليصِ معِدتها في الحال…، ولذلك لم تعد تُبالي لمجاملات الأقاربِ ولا الأباعدِ، ولا لكلامِ أحد، كلُّ من يحيطُ بها حينَ ينظرُونَ إلى منظَرِها، يقولُون بأنها بدينة مثلَ البقرة، والجاراتُ يُشِرنَ إليها بالأصابعِ…ويَهْمِسنَ بكلامٍ ونُعُوتٍ شَتى، وهي لَمْ تَعُدْ تتحرَّج من مظهرها، فقد أدارَتْ ظهرَها لِكُلِّ ما يُقَال بل لِكُلِّ شيء، ولَمْ يَعُدْ يَهُمُّهَا أَحَدْ في لحظةٍ وبدُونِ ندَم…لكن، في اليوم الموالي اعتلتِ الميزانَ وهي تلهثُ من الإعياءِ، جزعَتْ وزادَتْ دهشَتُها..إذ وجدَتِ المؤَشِّرَ يرتَفِعُ، وهي تتَصَبَّبُ عرقاً….حالة من المزاجِ المتقَلِّبِ أحياناً…بعد عودتها..اشرأَبَّتْ بثقلِ جسمِها كلَّهُ أمام الشَّاشّةِ من جديدٍ بخشوعٍ مُتَناهٍ…أحسَّتْ ببَعْضِ الإجهادِ، وهي تمُدُّ يدَها إلى المائدةِ الَّتي كانت تزدانُ بصُنوفِ وألوانِ الطعامِ…انحنَت رأسَها وانكبَّتْ على آنيةِ الطعام أمامَها، يدها تذهَبُ وتجيءُ بين فمِها والآنيةِ مثلَ الآلةِ، تأكلُ بنهمٍ غريبٍ وقد نشَطَ ازدِرادُها، كَمَا لَوْ أَنَّهَا تذكرُ أنهُ قبلَ أن تموتَ لابُدَّ أن تعيشَ…واستغربَتْ كيفَ أنَّ في هذَا العالمِ أشخاصٌ يهربُونَ من الطَّعامِ خوفاً من السُّمنَةِ، وآخَرُونَ يركضُونَ وراءَهُ منَ الجُوعِ….

مساف ة2 طفلة اسمها حياة…!

اكتملَ قُرصُ القمرِ فوقَ عشة الفراخِ في الخارج وأرسل شعاعاً، غسلَ وجهها الصَّغيرَ، دارت بيديها حولها تبحثُ عن عروسَتِها، تحسَّسَت معالمها وابتسمَتْ عندما استقَرَّت أصبعَها النحيلةَ في الثُّقْبِ مكانَ العينِ، حملتها وقامَتْ في هدوءٍ تعبُرُ الأجسادَ النَّائِمةَ في أرضِ الغُرفَةِ الضيِّقَةِ…ما الشيء الَّذِي يجمعهُم في هذا المكانِ؟
وحدهُ السَّقفُ الَّذي يُظَلِّلهُم هنا، وربما مكثَ أحدهم في الغرفةِ لأنه محمومٌ، أو تظل واحدة منهم بطنُها منتفخٌ تتلَوَّى عدةَ ليالٍ تنتظرُ أن تلفظَ ساكناً جديداً يصرخُ والكُلُّ نِيام…لن يتفَقَّدَها أَحَدٌ، الصغارُ كثيرونَ والتُّرابُ الذي طمسَ معالمَ الوجوهِ يجعلُ اختلافَ طُولِ القامةِ وحدهُ السَّبيل لمعرفةِ الولدِ من البِنْتِ، تعرفُ أنَّ اسمَها حياة وتلعنُ الحياةَ..وسطَ المقبرَةِ، يرقدُ أيضاً هيْكَلُ العربَةِ الخربَة، الَّذي يتَلاشَى تدريجياً بين أكوامِ القُمامَةِ، سمعتْ أصواتاً صاخبةً تأتي من داخلِ الهيكَلِ، فاعتَلَتْ فراغَ حديدِ النَّافِذَةِ، وجلَسَتْ تهزُّ ساقيها إلى الدَّاخِلِ، لم يرفَعْ أَحَدٌ عينَيْهِ إليها، مسَحَتْ بيدِها على وَجْهِ العَروسَةِ، وزرَعَتْ أُصْبعَها مكانَ ثُقب عينيها… وبدأتْ تتأمَّلُها بفرحٍ وأمل، تحضنُها بقُوَّةٍ وحَنان، تمشطُ شَعْرَها بأظافِرِها المتَّسِخَة، تلبسُها جورَباً كانتْ تدَّخِرهُ، تضحك ملء عينيها، مليئة بالسَّعادةِ…العروسةُ الَّتي كانت قد التقطَتْها خلالَ جولتِها في المقُبرَةِ، كانت مُلقاةً على ظهْرِها، تنظرُ إليها بعينٍ واحِدَةٍ، لكن الضَّجيجَ واللَّغَطَ يترافَعُ، فقَفَزَتْ منَ الشُّباكِ لتجدَ نفسَها في الطَّريقِ…، احتضَنَتْ عروسَتَها وتسلَّلَتْ بجوارِ الحائطِ حتى لا يراها الحارسُ لكنها فوجئت بجسَدِه الضَّخْمِ وراءَها، سألها عن وِجْهَتِها، فَفَرَّتْ هارِبةً، فلاحقَها بِسَيْلِ مِنَ اللَّعَناتِ وإلى كُلِّ الَّذينَ أنجبُوا أَمْثَالها، عَبرتْ محطةَ القِطارِ، هُناكَ الأرضُ المهْجُورَةُ الَّتي تَزْحَفُ إليها الكِلابُ الضالَّةُ، وتمْكُثُ رابضةً بلا طعامٍ في هُدوءٍ حتى تجهلَ أو يأتيها الموْتُ…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *