الأسرة، مجتمع، منوعات

“العادات الغذائية”2: الغذاء بين الجوع والذوق والشراهة والتعبير عن الانتماء

سلسلة “أنتروبولوجيا العادات الغذائية”، نتناول فيها مواضيع تتعلق بالعادات الغذائية المغربية في ارتباطها بمجموعة من الأبعاد البيولوجية والسيكولوجية، والثقافية، والذوق، والدين، والتراث، والهوية… وكذلك في علاقتها بالجانب الاقتصادي والاجتماعي للأفراد في اختياراتهم الغذائية. وسيتم التطرق لها بالتفصيل انطلاقا من كتاب “تحول العادات الغذائية بالمغرب القروي -دراسة أنثروبولوجية-“، منشورات دار الأمان 2015، لأستاذة علم الاجتماع والانثروبولوجيا بجامعة القاضي عياض نعيمة المدني، عبر حلقات يومية طيلة أيام رمضان، في جريدة “العمق”. 

الحلقة 2

محددات العادات الغذائية، مداخل للتحول

لقد صورت بعض الدراسات العادات الغذائية القروية كعادات يطبعها الانغلاق والجمود، يبدو فيها المطبخ القروي وكأنه مرتبط ارتباطا وثيقا بالأرض واستغلال المنتوجات الفلاحية، يقوم على مهارة الأسلاف التي انتقلت إلى الخلف أو تم اكتسابها بفعل التقليد أو بحكم العادة، أي بلغة جون فرانسوا رفل: المطبخ الذي لا يتحرك ولا يسافر أبدا . 

لذلك، نذهب من خلال عرض بعض أهم محددات العادات الغذائية، إلى تكريس خصائص النظام الغذائي القروي كنظام متعدد المنافذ وقابل للتحول.

نشير من جهة ثانية، أنه رغم تقسيمنا لهذا الباب إلى فصول، نؤكد على تداخل محددات العادات الغذائية، ذلك أن التغذية هي في ذات الآن زخم من العادات و الطقوس، تعبر عن الانتماء، الهوية والمستوى الاجتماعي، كما تعطينا فكرة عن  التمثلات السائدة.  

الفصل الأول: البعد البيولوجي للتغذية

1.1 البعد البيولوجي للتغذية

تتلخص المحددات البيولوجية للسلوك الغذائي في الخصائص ذاتها التي تميز الإنسان ككائن قارت، ومن هذه النقطة تتناسل مجموعة من الخلاصات. إذ نسجل قدرة الإنسان على التكيف مع التحولات البيئية التي تؤثر على عاداته الغذائية، وهذا على خلاف الحيوانات التي تتغذى على أشياء معينة لا يمكن تغييرها.

في ذات الإطار نجد أن الإنسان يتأقلم مع الوسط الذي يوجد فيه والخصائص التي تطبع هذا الوسط كالظروف الطبيعية والتغذية.

وهنا نجد كيف تقبل مثلا كل ساكنة على الأغذية التي تلاءم الوسط الطبيعي الذي توجد به، إذ تحاول مثلا الأسر في المناطق الجبلية والباردة إعداد وصفات غذائية تعتبرها ساخنة، كما تعمل الأسر التي تعيش ضمن مجتمعات رعوية على تصبير أغذية تتناسب مع ظروف التنقل.

في ذات الإطار، أثبتت الأبحاث التي قام بها بافلوف أن جسم الإنسان ما يفتأ يفرز الأنزيمات المساعدة على هضم الأغذية التي لم يتعود عليها الجسم. ولتفسير ذلك،  قام هذا العالم بتجربة قدم فيها أغذية لحيوان صغير وجد صعوبة في هضمها أول الأمر، لكن ما لبث أن أفرز جهازه الهضمي أنزيمات جديدة مكنته من الهضم بعد تكرار التجربة. 

وذات الأمر ينطبق على الإنسان الذي يملك ميكانيزمات بيولوجية داخلية تساعده على تقبل أي غذاء مهما كان دخيلا، إذ يكفي استساغة الفرد لأي وصفة لكي يجد سهولة في تذوق وهضم مكوناتها.

بالإضافة إلى التنوع الذي يطبع تغذية الإنسان، نشير أن الخاصية الثالثة للتغذية البشرية يطبعها نوع من التعقد. فالإنسان له قدرة على التجديد في تغذيته للحفاظ على قدر من التنوع في نظامه الغذائي، غير أن كل غذاء غريب ودخيل يشكل خطرا داهما بالنسبة له، أي أنه يجب عليه أن يحذر أيضا من الجديد الغذائي، وهذا ما يشكل مفارقة القارت  حسب كلود فيشلر (Claude Fishler).

فهذه المفارقة ستسمح بفهم أفضل لطبيعة وطريقة اشتغال المنطق المعقد، المقيد واللاعقلاني الذي تحكم اختيارات الإنسان الغذائية. إن الإنسان في نهاية المطاف يستخدم ثقافته الغذائية لحل مفارقة الكائن القارت، وتوجيه اختياراته وسلوكاته الغذائية. 

البعد البيولوجي للغذاء وحضور الثقافي 

إن تعقد الفعل الغذائي أمكن معه الكشف عن البعد الثقافي حتى في المظاهر التي تبدو بيولوجية صرفة.

فقد وضعت المقاربات الفيزيولوجية للغذاء موضع تساؤل حتى مستوى مساءلة الحاجيات الحيوية ذاتها، وذلك بالنظر إلى تصنيف الإشباع الغذائي كإشباع خاص ونوعي مختلف عن باقي الإشباعات الحيوية الأخرى باعتباره يتعلق بلبيدو غذائي معين.

وهنا نجد كيف ميز (ألكسندر دوماس Alexander Dumas) مثلا في تقديمه لقاموسه الضخم الذي يقع في أزيد من ألف صفحة بين الجوع والشراهة .

فإذا كان دافع البدائي للأكل هو الجوع فإن دافع المتحضر هو إرضاء الذوق والشراهة، من هنا فإن ألكسندر دوماس يرى أن كتابه موجه للإنسان المتحضر  لأن الإنسان البدائي في نظره ليس محتاجا إلى إثارة شهيته، هذه الشهية التي يقسمها إلى:

  • ما نعبر عنه عند الجوع، ذلك الإحساس الجارف الذي يقود إلى تناول حتى الأغذية النيئة.
  • ما نحس به عند جلوسنا على مائدة الطعام، ودون أن نكون جائعين فعلا، وهو إحساس يتولد عند تذوقنا لطبق شهي، تأكيدا للمثل القائل أن الشهية تأتي عند الأكل.
  • ما يحدثه الطبق الشهي الذي يقدم في الأخير من رغبة في التذوق بعد الإحساس الفعلي بالشبع.

كما يرى أن هناك أيضا ثلاث أصناف من الشراهة:

  • هناك الشراهة التي وضعها الثيولوجيون في مصاف الخطايا الكبرى والتي سماها مونطاني بعلم الفم، ويعد النهم أعلى درجاتها.
  • هناك شراهة أقل حدة مرتبطة بأولئك الذين يغالون في البحث عن أشياء معينة لتناولها ولو بكميات قليلة.
  • الشراهة المفرطة وهي مرض  يصيب الإنسان، وقد يؤدي به إلى الهلاك من فرط الأكل .

غير أننا نتساءل عما يحرك تناول الطعام لدى الأفراد، هل هو الجوع الذي يفرض تناول أي شيء يسد الرمق أم الشهية التي تملي تناول أغذية معينة، أم العادة التي تفرض تناول أغذية تم التعود على تناولها ليس إلا.

كما  نتساءل كيف يتداخل البيولوجي والثقافي في تشكيل السلوك الغذائي؟ أين ينتهي البيولوجي وأين يبدأ الثقافي؟  فعلى غير ما يبدو عليه، يوجد الفعل الغذائي كسلوك معقد يتشابك فيه البيولوجي والثقافي، وقد أدت مقاربتنا لمفهوم العادات الغذائية كعادات إلى الكشف عن مزيد من تكرس الثقافي في البيولوجي .

البعد البيولوجي للغذاء: بين الخطيئة والفن

بيد أن البعد البيولوجي للتغذية كان وراء تأخر الاهتمام به من طرف العديد من العلوم الاجتماعية، إذ كانت تنظر إليه كفعل بيولوجي صرف وسلوك اعتيادي ينبغي أن يقع تحت طائلة  المواضيع التي ترصدها العلوم الغذائية والطبية.

ويبدو أن البعد البيولوجي للغذاء كان وراء العلاقة التي تبدو سيئة بين الذواقة والفلسفة التي لا يمكن في نظرها إعطاء بعد فكري للذواقة. ففي محاورات أفلاطون، كان جواب سقراط حينما سئل عن المطبخ أنه ليس إلا مهارة من المهارات، وأنه لا يندرج ضمن الفنون، كما أن ربطه بالطب عشوائي.

لقد ارتبطت صورة الطباخ في الفلسفة اليونانية بكونه الشخص الذي ليست له أية دراية، فهو، أي الطباخ، على خلاف الطبيب لا يستطيع تقديم أي تفسير، بل إنه صاحب الخطيئة العظمى.

لقد أكد كليمان روسيه (Clément Rosset) بأن علاقة الفلسفة بالذواقة كما رسمتها الفلسفة لا تنحصر في مجرد استعراض فن الخطابة والتوليد، بل إن ذلك يعتبر من قبيل “الإمبريقية الخالصة”.

لقد هيمن الاعتقاد منذ قرون أن ما يميز الغذاء الجيد هو كونه صحي وليس ملبيا للذوق، وقد بدأ اختزال التغذية إلى خصائصها الاستشفائية مع أبوقراط ونظرية الأمزجة.

وهنا رأى روسي كذلك بأن الفلسفة الرواقية قامت بتناول التغذية في ثلاث تعارضات تربط بين :المطبخ والرغبة، المطبخ والصحة، المطبخ والذوق، أما بالنسبة لفلسفة الانغماس في اللذة، فتعرض التصنيف الكلاسيكي للذة: لذات ضرورية، لذات طبيعية وضرورية، لذات طبيعية وغير ضرورية.

يلوح  أن هناك تباينا بين الذوق الغذائي والذوق الفني، وهنا يرى روسيه أنه في نهاية القرن السادس عشر الميلادي ساد الاعتقاد  بأن  ما هو جميل مختلف ومنفصل عما هو جيد وصحيح.

 في ذات الاتجاه، يرى بأن الذواقة ليست إلا الرغبة في تحويل مهارة تلبية حاجيات الجسد إلى فن، وهذا شأن لا يهم فقط الذوق والطعم ولكنه يندرج أيضا ضمن الذوق الفني:”يجب أن نؤكد بأن هناك متعتين تتحققان عن طريق الشرب و الأكل، تتعلق الأولى بالشهية، بينما ترتبط الثانية بتأمل نجاح وصفة غذائية ما كما هو الحال بالنسبة لتأمل لوحة فنية أو قطعة موسيقية“.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *