الأسرة، مجتمع، منوعات

“العادات الغذائية”3: عند الحواضر والقرى.. من التذوق إلى الذوق والذواقة

سلسلة “أنتروبولوجيا العادات الغذائية”، نتناول فيها مواضيع تتعلق بالعادات الغذائية المغربية في ارتباطها بمجموعة من الأبعاد البيولوجية والسيكولوجية، والثقافية، والذوق، والدين، والتراث، والهوية… وكذلك في علاقتها بالجانب الاقتصادي والاجتماعي للأفراد في اختياراتهم الغذائية. وسيتم التطرق لها بالتفصيل انطلاقا من كتاب “تحول العادات الغذائية بالمغرب القروي -دراسة أنثروبولوجية-“، منشورات دار الأمان 2015، أستاذة علم الاجتماع والانثروبولوجيا بجامعة القاضي عياض نعيمة المدني، عبر حلقات يومية طيلة أيام رمضان، في جريدة “العمق”.

الحلقة 3

التغذية.. من التذوق إلى الذوق والذواقة

تلعب الرغبة الشخصية دورا أساسيا في جعل العادات الغذائية مختلفة بين الأفراد داخل المجموعة الواحدة (الأسرة مثلا)، لذلك نجد مسألة الذوق تجيب بامتياز عن سؤال من قبيل: كيف لنا أن نأكل دون أن نكون في الواقع نتغذى؟

إنه السؤال عما يدفعنا إلى الإقبال على تناول غذاء ما، دون أن نكون محملين بالوعي بقيمته الغذائية، ذلك أن إفراز اللعاب مثلا عند رؤية الطعام لا ينتج بالضرورة عن كوننا جائعين، بقدر ما يعود ذلك إلى وجود أغذية تبدو لنا لذيذة.

غير أن الذوق وإن كان يتميز بنوع من التلقائية، فهو يتميز عن مصطلح الذواقة الذي يحمل شيئا من الوعي والقصدية، كما يقوم على أخلاق خاصة شكلت موضوع بحوث برمتها.

في قاموسه الفلسفي، عرف فولتير الذوق كإحساس سريع بالجمال لتمييزه عن العيوب، وإحساس بالعيوب لتمييزها عن الجمال، كما يعتبر الذوق إحدى الحواس الخمس التي تنقل إلينا معلومات عن الإحساس والتصور، غير أن الذوق الغذائي يتغير حسب الثقافات وعبر الزمن، كما أن دراسة تحولات الذوق تقودنا إلى التحولات الأخرى التي يعرفها المجتمع.

أما بالنسبة لمصطلح الذواقة فهو لم يظهر إلا في القرن الثامن عشر، لذلك فإن الذواقة ترتبط في نظر بعض الكتابات، المنصبة على تاريخ الطبخ الأوروبي، بالمطبخ البرجوازي، في حين يقوم مطبخ الأرض أو المطبخ القروي على الذوق.

لم تذهب برسيلا فركوستون( Priscilla p . Ferguson) في منأى من هذا الرأي معتبرة أن الذواقة قد عملت على تحضر “الشهية”، كما نحت منحى لاروس روسونشيري (Larousse Ressenchérie) عندما عمد إلى تقديم الذواقة كفن ينضوي تحت طائلة الفنون ويسير جنبا إلى جنب مع الأدب، ذلك أن كل شغف معقلن ومنظم -كما هو الحال بالنسبة للذواقة- يصبح فنا.

يبدو أنه يصعب الحديث عن وجود ذواقة قروية، لأن الذواقة تقوم أسس وشكليات ترتبط أكثر بساكنة الحاضرة، من هنا أمكننا الحديث مثلا عن ذواقة غذائية خاصة بمدن معينة وليس بالقرى. في حين يمكن تناول مصطلح الذوق عند تناول العادات الغذائية حتى في الوسط القروي، غير أنه لا يمكن التحدث عن ذوق خاص بمنطقة قروية معينة بقدر ما يتعلق الأمر بوجود وصفات ضاربة في القدم ذات طابع محلي تعبر عن العادات الغذائية السائدة بالمنطقة.  

إن اختيارنا الحديث هنا عن الذوق والذواقة ليدفعنا ربما إلى التساؤل حول دور العادات الغذائية السائدة في تشكيل وإعادة تشكيل الذوق القروي، حيث تحضرنا مجموعة من الأسئلة: مدى وجود أسس وقيم خاصة تنم عن وجود ذوق غذائي قروي؟ كيف يميز القروي بين الشهية، الذوق، اللذة والذواقة؟ سيرورة تشكل الذوق الغذائي بالوسط القروي حيث إمكانية التأثر بنماذج استهلاكية أخرى.

كما نتساءل من جهة ثانية عن قوة الذوق كمحدد للعادات الغذائية أمام باقي المحددات الأخرى بمختلف مقوماتها.

لا يخفى أن البعد البيولوجي للغذاء كان وراء تأخر تناوله من قبل العلوم الاجتماعية، غير أنه تبين لنا من خلال هذا الفصل كيف يتخذ البعد البيولوجي للتغذية طابعا خاصا يميز الإنسان ككائن قارت، لهذا يلقي الثقافي بظلاله حتى على المظاهر البيولوجية للغذاء كالشهية والذوق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *