وجهة نظر

ولدي يقفز فرحا بالعطلة..ضغط أزمة أو أزمة ضغط؟

ما الذي جعل ولدي يقفز فرحا، وينط سرورا، حالما أخبرته فجر اليوم بأن الوزارة المهتمة بالتربية والتعليم قد قررت منح التلاميذ عطلة استراحة من التعليم عن بعد؟ انثالت علي الأسئلة وتزاحمت، وتناسلت أخرى وتناثرت: ما الذي يجعل متعلمينا فاقدين لشهية القراءة والتعلم؟ ما الذين يجعلهم منصرفين عن الدراسة راغبين عنها؟ ما الذي يجعل التلاميذ أو بعضهم يقذفون بمحافظهم وأدواتهم المدرسية أمام عتبات البيت ليفروا للعب واللهو؟ ما الذي يدفعهم إلى التواني في النهوض إلى واجباتهم والتباطؤ في إنجاز تمارينهم؟ ما الذي يجعل سلوكهم مختلفا إذا ما دعوا إلى رؤية الرسوم المتحركة في التلفاز أو اللعب في اللوحة الذكية: تراهم منبسطين قد اتقدت عيونهم شعلة جذابة، سرعان ما تنطفئ إن عادوا لما كرهوا من الدرس والتحصيل؟ ما الذي يزعجهم في الكتابة ويصدهم عن القراءة؟ ما الذي يجعلهم يكرهون الفروض ويشمئزون من الامتحانات؟ ما الذي يجعل تلامذتنا لا يتذكرون شيئا عما درسوه داخل فصولهم؟ وما الذي يجعلهم ينسون ما حفظوه بمجرد أن ينتهي كابوس التقويم ومحنة الامتحان؟ لماذا يا ترى تغمر الفرحة قلوبهم ويعمر الحبور صدورهم كلما سمعوا انقطاعا أو إضرابا أو غيابا للمعلم والمدرس؟ (للإشارة كانت تغمرنا الفرحة ذاتها، ويعمرنا الحبور نفسه لما يتغيب أو حتى يتأخر بعض مؤطرينا في مراكز التكوين! أهي أحلام الرجوع إلى الصبا أم هي خبايا فزع الرهاب من المدرسة؟). من جهة أخرى وهذا سؤال آخر عارض ممطرنا: ما الذي يجعل الأمهات حزينات لمجيء العطلة ولعودة الأطفال لاحتلال أجزاء كبيرة من البيت العامر؟ أو ليست المدرسة على أية حال “مكانا” لحراسة الأبناء واتقاء صداعهم هنيهات من الزمن؟

لندع الأسئلة البريئة في براءتها؟ ولندخل على أبواب مكرها الخلفية لتتصاعد الأسئلة المحرقة: أ نحن أمام فرحة طفولية عابرة بريئة أيضا سببها ضغط أزمة وباء كرونا وما جره من إجراءات الاحتراز التي تحد من حرية طفولة الأصل فيها التوثب والتوقد أم نحن أمام أزمة ضغط بنيوية تمارسها المنظومة في أداء وظائفها الخفية في حماية أشياء أخرى لا علاقة لها بالعلم والتعلم؟ ما الذي يفزع متعلمينا من المدرسة ومن التمدرس ومن الدرس ومن كل ما له صلة بجذر (د-ر-س) ويفرحهم ويسرهم ويبهجهم بكل ما يضلهم عن الطريق المؤدية إلى هذه المدرسة وما يجئ من فوائد من تلكم الجذور والبذور؟ وإذا كنا أمام أزمة ضغط فما أسبابها؟ هل يتعلق الأمر بجاذبية المدرسة وظروف التمدرس؟ أو بوضعية المناهج والبرامج؟ أو بطرائق التدريس وآليات التواصل؟ أو بفاعلية المدرس وأساليبه؟ أو بنهج التقييم والتقويم والتوجيه؟ أو بانسداد الآفاق وعتمة المستقبل؟

صورة المدرسة قاتمة في مخيلتنا وواقعنا؛ ترى هل يجدي الانطلاق من فرحتنا عموما بغياب الأستاذ، وفرحنا بالانقطاع عن المدرسة، وحزن الأم بهذه العطلة التي سوف تطلق سراح الأبناء ليمارسوا ” الشغب” و ” الصداع في المجازفة باستنتاج الصورة الحقيقية غير المعلنة للمدرسة في نسق مؤسساتنا للتنشئة الاجتماعية عندنا، هل يعني أنها تغدو النموذج المعادل للمعتقل أو السجن؟ في مدرسة تحيا أزمة فقدان الثقة، مدرسة فقدان الأمان الاجتماعي، مدرسة الشغب واندثار القيم، المدرسة المشتل المنتجة للظواهر المشينة باعتراف القائمين عليها.

جاذبية التمدرس فيها نظر، ماذا ينتظر من تمدرس لا يوفر جاذبات معينة تسوق للماركتونيغ الجمالي للتمدرس؟ ما المأمول من مدرسة مقرراتها عتيقة قديمة لطول مكثها في الدهاليز والأقبية؟ من مدرسة باردة طرائقها؟ مقهور معلمها؟ مكتظة فصولها؟ بعيدة مقراتها؟ مقفرة آليات الحوار والمحاورة فيها؟ التقييم فيها جزاءات ونقط وأصفار، والإعداد القبلي فيها عقوبة وضريبة، والمتعلم فاقد لشهية القراءة في قسم إنعاش الكسل والملل. ظروف تمدرس هي بنيات تحتية لا تضمن شروط جودة ملائمة، ومناهج دراسية وبرامج قرائية هي مريج خليط من الانتصار للمضامين المعرفية غير المتجددة ومن هواجس إنهاء المقررات وتغييب الجوانب الكفائية الحيايتة المهارية والقيمية.

وضعية القراءة والتعلمات تتمظهر أزمتها مثلا في أن يدرس المتعلمون لغة مدة طويلة من السنوات ولا يستطيعون كتابة طلب للعمل، ويدرسون لغات لا يرطنون بها إلا كلمات تستعمل في الشات والبوز، ألم تسجل مدرستنا نتائج كارثية في التعلمات الأساسية تجعل مؤشرات التحصيل الدراسي عندنا متدنية جدا؟ مما يعني أن الدريهمات التي تصرف على التعليم لا تحقق المطلوب في مجال التلقي المعرفي واكتساب الكفايات الأساسية واستدماج التقنيات الحديثة وتعلم اللغات.

نأتي إلى وهم التعلم عن بعد أو من بعد لعل الأمر سواء! لأن بنية مدرسية غير مؤهلة من حيث التهيئة الرقمية للتعامل مع هذه الآلات إنما تقوم بعملية إرجاء للتعلمات لتجعلها من “بعد” حقيقة لا عن “بعد”. من أين للآباء بهذه الآلات العجيبة الذكية والفقر والضعف والحاجة سادة الموقف والمحفل؟ بل من أين لنا بمن يسهم في تغيير عقليات اعتادت جعل هذه التقنيات أدوات للهو واللعب والتجسس ونشر الفضائح؟ كيف تتحول ضربة لازب إلى أدوات تعليمية تعلمية؟ ثم من أين لنا بتكوين وتدريب متينين يكسبان المتعلمين ما وراء هذه الآلات من تفكير وذكاء وتدبير وتطوير وتجديد وفكر علمي نقدي؟ أم أن الأمر يتعلق فقط بتباه بامتلاك آخر موديل لا تدري طريقة تشغيله؟ أين هي البيداغوجيا الرقمية المبدلة للعقليات والمناهج والأدوات؟ وأين البنيات المادية التحتية التي يسيطر عليها جشع شركات الاتصال تقطر الصبيب دبيبا كدبيب النمل أو شبيها من ذلك سيرا كسير السلحفاة؟

بعض مخرجات السياسة التعليمية والتدبير التنفيذي هي التي نراها تضرب بها وجوهنا تقاريرهم الدولية والوطنية: المرتبة 121 عالميا في سلم التنمية البشرية وراء دول تعيش الحروب، عدد المنقطعين بالتعليم المدرسي العمومي سنة 2018 وصل إلى 431.876 تلميذا وتلميذة، تسرب 65 % من طلبة الجامعة من دون تحصيل الإجازة الأساسية، 37% من المغاربة يدرسون في مؤسسات ذات ضعف في أطر التدريس، 70% من المغاربة يدرسون في مؤسسات تفتقر للموارد التعليمية خاصة في التعليم العمومي، ما بين 70 و 74 % من التلاميذ لا يتمكنون من الكفايات الدنيا في الرياضيات والعلوم والقراءة، لم يتحقق من مؤشر الإنصاف وتكافؤ الفرص سوى 38.9 %، ومن مؤشر جودة التربية سوى 30,3%، في التعليم الابتدائي مثلا 2360 مؤسسة لا تتوفر على التطهير السائل، 1795 لا تتوفر على البنيات التحتية الملائمة. ويأتي من يحدثك عن استمرار التدريس وسط الجائحة عن بعد وقد كنا نحيا الجوائح والكوابح من قبل ومن بعد.

وبعد، هل يريد القائمون على أمرنا لنا فعلا أن نقرأ وندرس بما يحقق محو أميات متعددة ومختلفة؟ هل يريد من يمسك برقبة التعليم لتنتج له المواطن الصالح له لنا وعيا محررا متحررا؟ هل يرجى ممن يرهن التعليم في يد المانحين الدوليين أن نستقل بتعليم لنا يستجيب لقيمنا ولحاجياتنا ولا يكون نسخا ممسوخة منسوخة من غيرنا؟ أسئلة نتركها تجيب عن نفسها بنفسها. ولتدم فرحة أطفالنا حتى حين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *