منتدى العمق

أزمة كورونا والرهان الأخلاقي

دفع القادة السياسيون بعشرات الملايين من البشر إلى حتفهم نتيجة للحروب التي أشعلت لأتفه الأسباب في بعض الأحيان ،وفي كثير من الأحيان، زجوا بمئات الآلاف من الجنود في حروب طاحنة بدون هدف إلا إرضاء لنزواتهم المنحرفة أو إشباعا لغرورهم المرضي.إن الاعداد المهولة لضحايا الحروب، لا يعادلها إلا حجم الجشع والوحشية التي يمكن للإنسان أن يتصف بها بغض النظر عن الأسباب والدوافع.

تجيب السياسة عن سؤال الجدوى،لاعن سؤال الأخلاق حسب الميكيافيليين،وهو النموذج السائد في المشهد السياسي الحديث،وهو ما تؤكده الأحداث،فقد استمرت ألمانيا النازية في استيراد المواد الأولية المستخدمة في الصناعة الحربية من الاتحاد السوفياتي إلى غاية اليوم الذي أغار فيه الجنود الألمان على الأراضي السوفيتية بعد بضعة أشهر من توقيع اتفاقية عدم الاعتداء في غشت 1939،وبنفس الطريقة كان الجواب على المزودين الأوروبيين،بعد أن أدار الحلفاء ظهورهم لحلفائهم الروس عندما تأكدوا أن ألمانيا قد تكون صديقا قويا.فلا هم حفظوا العهد مع حليفهم،ولا هتلر اعترف لهم بفضلهم.

هذا مثال واقعي من تاريخ العالم الحديث،وفي حاضرنا أيضا أمثلة كثيرة تشهد على تغييب مفهوم الإنسانية والأخلاق من الحقل السياسي نحو مزيد من تغول المادية واحتقار الإنسان.

فبينما يجتاح وباء كورونا العالم بتداعياته الصحية والاجتماعية والاقتصادية، وبينما يسابق ذووا الاختصاص الزمن للحد من تداعيات الوباء الصحية على الإنسان، ويجتهد الاقتصاديون في تحليل ورصد التداعيات الاقتصادية للازمة واقتراح الحلول، ويهب المجتمع بمختلف مكوناته لتدارك الاكراهات الاجتماعية للأزمة، انبرى القادة السياسيون لابتكار وسائل جديدة لتعزيز السلطوية وإحكام قبضتها على الشعوب من أجل الزحف على مكتسبات الديمقراطية وتقويضها، كما حذر من ذلك تقرير تحليلي لصحيفة الإندبندنت البريطانية، كما أن تراشق قادة بعض الدول العظمى بالاتهامات حول أصل الفيروس أو احتكار اللقاح، وبروز بعض السياسات العنصرية اتجاه المهاجرين، وحرب القرصنة وقطع المساعدات، لدليل آخر على أن الاعتبارات الإنسانية في الحسابات السياسية تأتي أخيرا وليس أولا.

إن مشاهد المدرعات العسكرية التي تجوب شوارع المدن، وحملات التمشيط الامنية للحد من حركة الأفراد، وما يتبع ذلك من حملات الاعتقال والاحتجاز والتعنيف والتضييق على حرية الرأي والتعبير بوسائل تعكس شيئا من المبالغة، والتي تناقلتها مختلف وسائل الاعلام والتواصل بشكل مكثف وغير مسبوق، كل هذا، قد يدفعنا إلى التساؤل عن أهداف ومرامي هذه الحملات، أليست محاولة لتطبيع المشهد وإعادة السيناريوهات القمعية القديمة،؟هذا احتمال وارد وغير مستبعد، خاصة مع إصرار الانظمة على هذه الوسائل وإعطائها أولوية كبيرة رغم كونها أثبثت فشلها في احتواء أو حتى التخفيف من الأزمة. وبالتالي، فإن المسؤولية تقع أولا على عاتق الأنظمة السياسية بخصوص النتائج الحالية والمستقبلية للأزمة، وتمتد مسؤوليتها إلى مستويات أبعد مما ذكرنا.

فبعد أن تحدى هذا المخلوق ألمجهري الضعيف، أقوى الاقتصادات وأشدها تماسكا، وهزم أعتا الأنظمة الصحية وأكثرها استعدادا، وبعد أن عبرت الانظمة السياسية القائمة عن قصور وعجز كبيرين عن التعامل مع الازمة بما تقتضيه طبيعتها وبما تتطلبه المرحلة، أجمع الكل بدون استثناء،على أن السبيل الوحيد لمحاصرة الوباء والخروج من الأزمة، هو انضباط الإنسان والتزامه وتعاونه، فهو حجر الأساس والرقم الصعب في المعادلة، لقد وجد العالم نفسه في أمس الحاجة للقيم الانسانية، في أمس الحاجة لقيم التضامن والتكافل والتآزر، العالم اليوم يحتاج ذلك الانسان الذي يفكر في غيره كما يفكر في نفسه، ويغلب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ذلك الانسان الانسان، وهذا ما أغفلته أو حاربته الاديولوجية المادية ووأدته السياسات الاستكبارية،ونعلم جميعا أن بناء الإنسان يتطلب أرضية صالحة ومخططا جيدا ووازعا محفزا وبناة ماهرين.

إن إخضاع السياسة لرقابة الاخلاق،شرط أساسي لخلق البيئة المناسبة لزراعة القيم الانسانية النبيلة التي من شأنها الحفاظ على وجود وتطور المجتمعات،ولبد لهذا الزرع من يد راعية حاضنة موجهة، فمهمة تربية المجتمع وتخليقه لا يضطلع بها السياسي ولا رجل الاعمال ولا المهندس ولا الطبيب، لانها تخاطب في الانسان روحه وإنسانيته،وليس خلقته أو عرقه أو رصيده في البنك، وهنا يبرز دور المعلم المربي والفيلسوف المفكر والعالم المنظر، وهو الدور الذي احتل مكانة ثانوية في ظل الانظمة القائمة التي أعطت الاولوية لرأس المال وللإنتاج حتى صيرت الانسان آلة للعمل وخدمة مصالح الباطرونا ومضاعفة الارباح دون الالتفات إلى حاجياته القيمية والروحية.

لا ينتظر من الأنظمة السياسية القائمة الشيئ الكثير، ولا يعول على الاطروحات المادية والانظمة الاقتصادية الخادمة لها للإجابة عن إشكالات وتحديات المرحلة المقبلة، بل سيكون العالم مطالبا بإيجاد أنظمة جديدة كليا ترتكز على قيمة الانسان وعلى قيمه النبيلة، حتى يتمكن من القيام بمهمته التاريخية في عمارة الارض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *