رمضانيات، مجتمع

نوابغ مغربية: الكومي .. قائد قلب موازين القوى بالغرب الإسلامي وحكمه امتد إلى ليبيا

تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية.

هم رجال دين وعلماء ومفكرون وأطباء ومقاومون وباحثون ورحالة وقادة سياسيون وإعلاميون وغيرهم، منهم من يعرفهم الجميع وآخرون لم يأخذوا نصيبهم من الاهتمام اللازم، لذا ارتأت جريدة “العمق” أن تسلط الأضواء على بعضهم في سلسلة حلقات رمضانية بعنوان “نوابغ مغربية”، لنكتشف معًا عبقرية رجال مغاربة تركوا بصمتهم في التاريخ.

الحلقة الرابعة: عبد المؤمن الكُومي .. قائدٌ لا يُشبِه أحَدا

شهدت تلمسان؛ كبرى حواضر المغرب الأوسط (الجزائر) سنة 1094 ميلاد مَن سيصير أنْبَغَ رجالاتها العسكريين والسياسيين؛ عـبد المؤمن بن علي الكومي.

تلقّى الفتى الألمعي دروس العربية والقرآن والعقيدة في مسقِط رأسه، ثمّ حَدَتْه الرَّغبة في طلب العلم خارج القُطر الجزائري، فعزم على التوجّه للمشرق، إلا أنَّ الأقدار كانت تُهَيِّءُ له أنْ يَبْزُغَ نَجمـه من المغرب، فكان أنْ تمَّ اللقاء الذي سيكون نُقطَة تَحوُّل في قناعاته المذهبية واختياراته العِلمية، بالرجل الورِع المثير للجدل؛ الفقيه محمد بن تومرت.

وَجَد ابن علي في ابن تومرت ضالته العِلمية وحاجته للتربية والتزكية، ووجدَ ابن تومرت في التلميذ الجديد حاجته لـلمُريد، فكانْ أنْ نَشأ عن علاقة الشيخ بالـمريد صُحبة علمية وصداقة إنسانية ستصير تحالُفاً سياسيا وإستراتيجيا قَـلَب موازين الـقُوى في الغرب الإسلامي، وأَسَّس لتجربة سياسية ستُعمِّر إلى مطلع 1292.

توثّقت الصِّلة بين الرجلين، ومِن “بجاية” كانت الانطلاقة، وفي “فاس” استقرّا مَعاً، طاويان على فكرة سياسية ومذهب جديد. وسيُواصل التلميذ النجيبُ التلقي والارتقاء في الصُّحبة، ونَيْلِ ثِقة “المهدي” ابن تومرت، صُحبة أنْتَجت زَعامة، سيرعاها ابن تومَرت إلى أنْ تَستوِي، وسيَسْتَثمِرها ابن علي الكومي بعد رحيل الزعيم الروحي للموحِّدين، ليتولَّى مهمة خليفة المسلمين لأربعٍ وثلاثين سَنة من حياته السياسية.

عَلامات النُّـبوغ العسكري والسِّياسي بَدَت جَلِـية على شخصية عبد المؤمن، مِن يَـوم أَمَّـــــرَهُ ابن تومرت على قيادة جيوش الموحّدين في مواجهة المرابطين في معركة البحيرة الشّـهيرة سنة 524هـ.

تُـوفِيَ صديق عبد المؤمن، الأب الروحي لحركة الموحِّدين؛ فجاء الدّور على عبد المؤمن بن علي ليَبْصُم تاريخ المنطقة ببصماتٍ خالدات، فخاض سلسلة حروب ضد آخِر أمَراء دولة المرابطين، تُوِّجَت بانتصار كاسح للموحّدين، بضمِّهم وهران وتلمسان شرقا، وإخضاع القبائل الشرقية للدّعوة الموحّدية، ثمّ التوجّه لفاس، ومحاصَرتها سبعة أشهر، في صبر ودهاء عسكري لا يؤتاهما إلا كبار القادة، إلى أنْ خَرجت مِن يَدِ المرابطين، فدَخلها ابن علي الكومي منتصِرا يوم 5 ماي 1145م.

كما دَخَل العاصمة التاريخية للمرابطين (مراكش) في مارس من سنة 1147 بعد حصار لها دام تسع سنين، ثم انضم الشّمال ومدينتي سلا والرباط لنفوذ الحاكم الموحِّدي الجديد، ثمَّ قضى على الحمّاديين في الجزائر، واستأنف حملته العسكرية إلى تونس، فأنهى حُكْم قادتها الزّيديين..، فَـدَشَّنَ بذلك عبد المؤمن بن علي عَهداً جديدا في تاريخ المغرب الأقصى والأندلس تحت راية دولة الموحِّدين.

يُحـسَب للخليفة عبد المؤمن بن علي أنـه حَوَّل حركةَ دَعوةٍ وثورةٍ إلى دولة قوية شاسعة المجال مُهابة السلطان، وأَخْرَجَ الموحّدينَ مِن قوقعة الانشغال بالعقيدة التومرتية والتعلّق بكاريزما الإمام وأدْلُوجَة المـهدَوية، ووجّه طاقاتهم وعصبيتهم صوب تأسيس وتوطيد الدّولة، فكان الزعيم السِّياسي الأوحد الذي وحَّـد المجال الممتدَّ مِن مراكش إلى طرابلس الغَرب، ومِن تامدُّولت جنوبا إلى تْـطِيلة Tudela في الشَّمال الإسباني.

وكانَ بما اجتَمع في شخصيته من قيمة الزهد وحبّ العلم والشّجاعة والحزم والحنكة العسكرية ورُوح القيادة والتطلُّع للسيطرة ونشر الإسلام ومَدِّ ظِلّ الدّولة الـموحّدية؛ عوامِل جعلته بَحقٍّ؛ مؤسِّساً لأزْهَى عهود المغرب الأقصى والشَّمال الإفريقي.

وهو إلى هذا؛ لم تَشغله الفتوحات والتوسعات عن إرساء دولة المؤسَّسات، فاستَحدَث مناصب وزارية، ودِيوَاناً خاصاً به ضَمّ لفيفا من النجباء والفقهاء والعلماء وبعض القادة العسكريين، واهتمَّ بالثغور والتَّحصينات الدفاعية وتجديد الأسوار التاريخية لبعض الـمدن وتجديد الرُّبُـط، وأَمَر ببناء وتشييد مدينة الفتْح في جبل طارق سنة 555هـ بقصْد جَعْلِها مِن الحصون المتوسطية للجيوش المغربية العابرة ذهاباً وإيابا بَين الضَّفتين المغربية والأندلسية.

وأنْشأ الأسطول البحري وأعطى انطلاقة بناء حوالي 400 قطعة بحرية أوَكْلَ إنجازَها إلى موانئ طنجة وسبتة وبادس والمعمورة في المغرب، ووهران في المغرب الأوسط (الجزائر) والمهدية في المغرب الأدنى (تونس) وفي الأندلس كذلك. واعتَمَد الرّقاصين (سُعاة البَريد) وطوَّر نظام البريد بين الأقاليم، وفَرَض الخراج على القبائل المغربية، كما أَمَر ببناء مسجد (تنمل) جنوب مراكش، والذي ما يزال إلى اليوم مَعْلَمة أثرية شامِخة تضمُّ إلى جانِبها ضريح صديقه وشيخه الزعيم المهدي بن تومرت.

كما استثمر في معادن المغرب؛ كمِلْح منطقة سِجلماسة وفِضّة منطقة سُوس (تازْرارات، زُجُنْدَر، تامْدلَّت..) وفتح بها باب الاغتناء والثَّراء للمغرب وللفئات الاجتماعية بالمنطقة. وعلى مُستوى نِظام الـحُكم؛ جَعَـل الـمُـلْك وراثيا، بتعيين وليِّ عهده وخَلَفِه مِن بَعده، فضمِن بذلك عدم توزُّع البلادِ بين مَجْلِس العَشَرة الـمُقرَّبين، أو ذهاب رِيح العَصبية الموحدية بين كَثْرَة الـمتنافِسين على السلطة.

إلى جانب هذه المنجزات التي شهِدها عهده العامِر لمدة أربعةٍ وثلاثين سنة؛ خَصَّص جهودا طيبة لدعم التّعليم ونشر القراءة وتطوير النهضة العلمية بالأندلس، واعتنى بالــحُفَّاظ، الذين شَكّلوا عماد الدولة الموحدية، وعمِل على تنصيبِ العلماء على رأس الولايات الموحدية.

وبَعْد 69 سنة من الحياة العامِرة؛ وافتْه الـمنية بِـعدْوة سَلا يوم 16 ماي 1163، حسب رواية (ابن أبي زرع)، ودُفِنَ بــ”تنمل”، بجوار مرقد زعيمه الروحي ابن تومرت.

الحلقة الخامسة من إعداد: عـدنان بـن صـالح/ باحث بسلك الدكتوراه، مختبر “شمال المغرب وعلاقاته بحضارات الحوض المتوسِّطي”، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي – تطوان.

* الصورة من الأرشيف التاريخي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *