وجهة نظر

في الذكرى العاشرة لرحيله: محمد عابد الجابري.. المفكر الفذ الخالد

إشكاليات الفكر العربي المعاصر:  ازدواجية: ” أصالة / معاصرة ” كأنموذج

نستحضر، في هذا المقال، روح فقيد الفكر العربي الأستاذ محمد عابد الجابري (1936 – 2010)، فإذا كان الموت قد غيب عنا هذا المفكر جسدا، فإنه حاضر، ولا شك، فكرا وروحا، بالطرح النوعي الهام لإشكالاتنا الفكرية التي ما نزال نتخبط فيها. إشكالات يمكن صياغتها وفق تساؤلات مؤرقة للمضجع من قبيل: كيف يمكن تجاوز طابع التردي الذي أصبح يسم ثقافتنا العربية الإسلامية؟ وكيف يمكن التعامل، كعرب وكمسلمين، مع الازدواجيتان الثقافية التي باتت من صميم تركيبتنا النفسية والوجودية: أصالة/معاصرة، حداثة / تقليد، استشراق /استغراب، تقدم / تأخر …؟ وما الشروط الكفيلة التي تمكننا من تجاوز أزمة الإبداع التي نعاني منها؟

حلت اليوم 03 ماي الذكرى العاشرة لوفاة المفكر الفذ، وهي مناسبة هامة، بالنسبة لكل عربي، كي يستحضر أعمال هذا الهرم العربي الذي أغنى الثقافة والفكر العربيين بسلسلة من أبحاثه في مجال الفكر والفلسفة والتراث، وسع الجابري، من خلالها، مجالات تفكير هذا الإنسان العربي، وذلك بحس فكري تجديدي ورؤية نقدية عميقة للتراث العربي الإسلامي، قربت هذا الأخير من إشكاليات ارتبطت بالماضي العربي ا لفكري والسياسي والاجتماعي، وهي الآن، تحضر بقوة [1] في واقعه العربي المعاصر، كقضايا مركزية لا مهرب منها.

لقد تداخلت وتشابكت أوجه الطابع الإشكالي لهذه القضايا، التي نذكر منها إشكالية الأصالة والمعاصرة وإشكالية أزمة الإبداع وإشكالية التقدم وإشكالية النهضة وإشكالية العلاقة بين العرب والآخر الغربي، لتشكل تجليا للواقع الثقافي للإنسان العربي، في أفق تجاوز أزمة الإبداع التي تعاني منها ثقافته العربية المعاصرة الراكدة، بقصد إنتاج شروط جديدة لمواجهة عسر الانتقال بها إلى مرحلة متقدمة.

وقبل الدخول في عرض كيف تناول الجابري لازدواجية: ” أصالة / معاصرة “، تناولا تحليليا ونقديا، المعتمد عليها هنا في هذا المقال كنموذج لهذه الإشكاليات، نود أن نستعرض، في عجالة، مساره، الذي سبق مرحلة تأسيسه لمشروعه الفكري في نقده لبنية العقل العربي.

لقد قدم الجابري إسهامات كثيرة ومتنوعة تنوعت بتنوع الأشواط التي قطعتها مسيرته الفكرية. إذ كانت له إسهامات في التأليف المدرسي في مادة الفلسفة والفكر الإسلامي الموجه إلى تلامذة الباكالوريا، وأخرى في مجال الأبستمولوجيا وفلسفة العلوم الموجهة للطلبة الجامعيين. كما أن له إسهامات في مجال النضال السياسي، قبل أن يتجه إلى الجانب الفكري الفلسفي مع بداية السبعينات من القرن العشرين. [2]

لقد ارتبط التأليف الفكري لدى الجابري، بدراسة التراث العربي الإسلامي، فأصدر كتابه عن ابن خلدون ” العصبية والدولة «كما اهتم بأقطاب الفلسفة العربية في العصر الوسيط، كالفارابي وابن سينا وابن رشد والغزالي، فأنجز سلسة من المقالات، هي في الأصل مداخلات في ندوات فكرية كان الجابري يشارك فيها، سواء في المغرب أو في عدد من الدول العربية.

ونظرا لتجاوب واستحسان عدد كبير من المفكرين والمثقفين العرب لهذه المقالات، لتناولها العميق لإشكاليات التراث العربي الإسلامي تناولا يعتمد الجدة والأصالة في الطرح الفكري والفلسفي، فقد ارتأى الجابري جمعها في كتاب ” نحن والتراث «. هذا الكتاب الذي اعتبر نقطة انطلاق حقيقية لفكره في شق الطريق نحو تأصيل وتجديد التراث العربي الإسلامي النابع من تحليل عميق للعلاقة التي تجمع العرب بموروثهم الثقافي والحضاري من جهة، والنابع، أيضا، من فهم له في تاريخيه [3]
لقد كان يحدو الجابري، في تلك المرحلة من حياته الفكرية، هاجس بناء رؤية تقدمية للتراث العربي والإسلامي. فكتابه الموسوم ب ” من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية «هو محاولة لتشكيل رؤية نقدية جديدة لطبيعة الإشكاليات الفكرية والتربوية التي تناولت مسألة التراث من زوايا متعددة. رؤية أرادت، من جهة، أن تربط الحاضر بالماضي من أجل رسم مستقبل مشرق وزاهر، ومن جهة أخرى، أرادت أن تحدد موقفا فكريا ومنهجيا لمعالجة مختلف القضايا المرتبطة بالتراث وبفترتنا المعاصرة [4]

وقد اهتدى الجابري في بناء هذه الرؤية التقدمية إلى تبني منهج علمي زاوج فيه ما بين النظرتين التاريخية والبنيوية المضاف إليهما موقف الذات المفكرة المعالجة للموضوع.

وهكذا، وعلى هذا الأساس المنهجي، الذي بدأ يتسع عند كل محطة من حياة الجابري الفكرية، حاول الجابري تعميق رؤيته وتصوره لقضايا تراثنا العربي، انطلاقا من تحليل كيفية تعامل العرب مع قضاياهم المعاصرة، خاصة تلك التي تخص ماضيهم في علاقته بحاضرهم. ذلك الحاضر المتسم ب ” الانشطار ” وب «الانفصامية ” (على حد قول الجابري) كحالة تعبر، في نظره، عن وضعية ثبات وجمود عند نقطة وسط بين ماض متجاوز وحاضر غير متملك. حالة تكشف التجاذب والصراع والاصطدام بين ثقافة العصر الوسيط وبين ثقافة العصر الحديث، لتضع وضع، بفعل ذلك، العرب في مستوى إشكالي، قفز به الجابري من مستوى مناقشة العلاقة بين القديم وبين الحديث إلى مستوى يمس الذات العربية في علاقتها بآخرها الذي هو الغرب الأوروبي.

لقد اعتبر الجابري قضية علاقة الذات العربية بالآخر الأوروبي قضية مركزية قد أنتجت، في خضم المخاض العسير الذي يعيشه الواقع العربي المعاصر (أو ما يسميه الجابري ب ” عسر الانتقال إلى مرحلة متقدمة «)، قضايا وإشكاليات فرعية مختلفة ومتداخلة، كإشكالية “الأصالة والمعاصرة «وإشكالية «أزمة الإبداع ” وإشكالية «النهضة ” وقد انصب جهده على ممارسة النقد عليها وتحليلها عبر تفكيك خطاباتها لتغدو مسائل قابلة للحل، بدل تركها ك «صور لاعقلانية مشوشة للكيان ” أي كإشكاليات بدون حلول. [5]

يرى الجابري أن إشكالية ” الأصالة والمعاصرة «قد كشفت عن صراع بين ثلاثة أقطاب وهي:

• قطب عصراني متبن للنموذج الغربي ” (ليبراليون، اشتراكيون، قوميون، وأصحاب النزعة القطرية الضيقة)

• وقطب سلفي «متبن للنموذج العربي القديم كما كان قبل عصور الانحطاط (سلفيون راديكاليون يرون في ماضي السلف الصالح نبعا صافيا ينبغي الاغتراب منه اتقاء شرور الثقافة الغربية المعاصرة، سلفيون معتدلون يقبلون بهذه الأخيرة شريطة عدم مخالفة ما أتت به الشريعة من أحكام)

• وقطب متبن لموقف ” انتقائي ” يسعى إلى التوفيق بين ” العصرنة ” وبين «السلفية ” عبر البحث في الحضارات الإنسانية ما يقوي ” يؤصل ” قيم الحضارة العربية الإسلامية.

وفي هذه الحالة، اعتبر الجابري أن العرب قد بدوا في وضعية جبرية لم تسمح لهم بحرية الاختيار بين النموذج الغربي المعاصر وبين النموذج العربي الإسلامي الأصيل. فالتحديث الذي تعرفوا عليه لا يعدو أن يكون مجرد تحديث مستورد كشف، بالتالي، عن وجه استعماري مقيت للغرب، وانعكس، سلبا، على مختلف شؤونهم التنظيمية والتدبيرية للاقتصاد والسياسة والمجتمع، فظهرت هذه الأخيرة، غارقة في السطحية وفي الارتجال.

وقد اقتضى الأمر، في نظر الجابري، لمعالجة ازدواجية: أصالة / معاصرة، موضوعيا وتاريخيا، فحص أسئلة النهضة التي تمخضت عنها، للبحث عن أسباب التأخر والتقدم والبحث عن كيفية النهوض واللحاق بالركب الحضاري الغربي. وقد قام الجابري بتحليلها وممارسة النقد عليها، ليكتشف، في الأخير، أنها مجرد أسئلة حالمة وإيديولوجية انطلقت من نقد الحاضر للاحتماء بالماضي البعيد من أجل توظيفه لمصلحة النهضة.

فليس عيبا، في نظر الجابري، أن يستشعر العرب، بعد قرون من الانحطاط والجمود الفكري، بضرورة النهوض اعتمادا على ماضيهم لتأكيد هويتهم وخصوصيتهم الثقافية، ضدا على أي ثقافة غازية، لكن العيب كل العيب، هو افتقاد التاريخ الثقافي العربي لإعادة الكتابة والتأسيس بروح نقدية. ذلك التاريخ، الذي هو في واقعه، يؤرخ لخلاف الرأي وليس لبناء الرأي [6] تاريخ الفصل وليس الوصل تاريخ التزامن وليس التعاقب تاريخ فاقد لمعنى التغاير. تاريخ مرتبط بالمكان أكثر مما هو مرتبط بالزمان، تاريخ قائم على التراكم بدل التعاقب قائم على الفوضى بدل النظام. وتعتبر إعادة الكتابة والتأسيس هاته، في رأيه، خطوة وسبيلا لرد الاعتبار إلى هذا التاريخ.

ولن يتأتى ذلك، في نظر الجابري، إلا إذا تم فحص الأداة التي أنتجت هذه الثقافة (العقل العربي) وتفكيك بنيتها الداخلية لمعرفة كيف تأسست وتكونت ومعرفة نوعية الإنتاج الذي أنتجته [7] وقد كان هذا هو الهدف الرئيسي من إصدار الجابري لكتابه الموسوم ب ” الخطاب العربي المعاصر ” أي افتتاح مشروعه الكبير في نقد العقل العربي حيث انكب على تحليل الخطاب النهضوي العربي الحديث والمعاصر لإبراز مكامن ضعفه وإبراز عيوبه ونواقصه لكشف صورة العقل العربي كما هي.

الهوامش:
1 – تزامنا مع هذه الذكرى الخامسة لوفاة محمد عابد الجابري أنتجت ” قناة الجزيرة الوثائقية ” فيلما وثائقيا من إخراج عز العربي العلوي. وقد تم عرضته في شهر أبريل (نيسان) المنصرم. ومن فاتته مشاهدته يمكن النقر على الرابط التالي

2 – أنظر تقديم الأستاذ محمد وقيدي لوقائع ندوة ” نقد العقل العربي في مشروع الجابري ” مجلة الوحدة العربية السنة الثالثة – العددان 26 و27 تشرين الثاني / نونبر 1986. وقد أعاد نشره الجابري في كتابه الموسوم ب ” التراث والحداثة «في الفصل الثاني عشر ص – 265.
3 – نفس المرجع: ” التراث والحداثة «ص – 267
4 – ” التراث والحداثة «ص – ص 268 – 269.
5 – أنظر إلى كتاب: ” إشكاليات الفكر العربي المعاصر ” للدكتور محمد عابد الجابري – مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الثانية: بيروت – أيلول / سبتمبر 1990 ص – ص: 9 – 10
6 – نفس المرجع. ص 38
7 – نفس المرجع. ص 39

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *