منتدى العمق

زبونية وزبانية النضال

النضال من الوظائف الشخصية التلقائية غير المشروطة بشرط، وغير المقيدة بقيد، بل هو الحرية المطلقة في الذود عن الحق ومجابهة الباطل ولا يحتاج الى مناسبة، فهو سلوك حقوقي دائم لا مناسباتي متواصل ومتصل زمنيا ومتطور بتطور الزمان والأحداث لا يتأثر بالمواقع والمناصب ولا ينتقص بالتسلق والترقي في درجاتها، فالنضال هو ذلك المطلق المستقل شعاره التقويم والاستقامة.

لكن ما أثار انتباهي في الآونة الأخيرة كائنات ظهرت على سطح الساحة النضالية الوطنية تخالف تماما مفهوم النضال الحق و الحقيقي، فمن خلال ملاحظتي ومعايشتي للواقع الحقوقي لاحظت أن النضال كممارسة يومية قد حاد عن النهج الصحيح وفقد جادة الصواب بفعل امتطاء صهوته فرسان لا يفقهون شيئا في مضمار حلبة النضال، فكثيرا ممن يلبسون لباس النضال وحقوق الانسان والتضحية وغيرها من المصطلحات الرنانة التي تعج بها الساحة السياسية والنقابية وحتى الجمعوية وهي منهم بريئة، لا ينبع النضال لديهم من قناعة فكرية صريحة ومبادئ حقيقية ترمي إلى إصلاح الوضع وتغييره وإسقاط الظلم و رموزه . بل بعض أشباه المناضلين يتبنون أساليب ملتوية ومواقف غير واضحة وحتى شاذة أحيانا باطنها ليس ظاهرها.

فالنضال تضحية من أجل عدالة قضية وشرعيتها ووضوحها ولا تتأثر بانتماء لهذا الفصيل أو ذاك، وإلا تحول إلى مناصرة بعيدا عن المفهوم الصريح للنضال، والمناصرة هنا هدفها مؤازرة الأفراد لا المبادئ وهذا تقويض وهدم للمفهوم النبيل للنضال، فالمبدأ يجب أن يبقى ثابتا مطلقا لا متغير بتغير الأفراد والأحداث، فالحق حق أينما وقع، والباطل باطل بمفهومه العام، فهو كالداء الذي يفتك بالجسم بغض النظر عن صاحب الجسد.

في بلادي أصبح المناضلون يتهافتون على نشر أكبر قدر ممكن من الصور الشخصية والحضور المناسباتي، بل يقاسموننا جزءا من حياتهم اليومية والشخصية حيث تراهم ينشرون صورهم وهم في اجتماعات وفي حفلات وتظاهرات مع شخصيات سياسية ورياضية وثقافية وعلمية وفنيّة وكل من له شهرة في مجاله، يتوهمون بأنّهم ذوو حظوة ومكانة متناسين أن النضال انكباب على صنع المجد بالعمل لا بالصورة والمخالطة والتباهي.

ومن الصفات الجديدة التي أصبح يتصف بها هؤلاء اليوم، أنّهم صاروا يراكمون العضوية في أكثر من مؤسسة، فمنهم من هو عضو في حزبه السياسي وعضو في جمعية خيرية وأخرى ثقافية، ومسؤول في لجنة حكومية و أخرى مهنية… إلخ، معتقدين أن امتلاك العضوية في أكثر من كيان دليل على قيمتهم ومكانتهم، ولو نظرت إلى سجلّهم النشاطي وما يقومون به لوجدتهم يقتصرون على الحضور فقط، طبعًا هذا من أجل امتلاك فرص البقاء دومًا في القيادة والحفاظ على أكبر نسبة من الامتيازات والريع الحقوقي، وما استعمالهم لهذا الوجه والورقة الحقوقية أو الحزبية الا لقطف منافع ذاتية أو حصرية تخدم طائفة من الهيئة التي ينتمون لها، متجاهلين ما يعرف بالتخصّص النضالي. فالنضال في منظورهم مجرد بطاقة عبور تفتح أبوابا كانت من قبل صعبة الولوج.

إنّ بمثل هذه الحركات والأعمال يعتقد هؤلاء بأنّهم يمكن أن يصيروا «مناضلين كاملين» يُهاب جانبهم ويحترم شخصهم. وأنّهم صاروا الأشخاص المرموقين في جماعتهم، ولا يهمّهم بعد ذلك إن كانوا مخلصين أو منافقين سياسيين، ولا يهمّهم إن كانوا انتهازيين أو أصحاب فكرة ومبدأ، وهم بذلك بعيدين كل البعد عن قيم ومواصفات المناضل الحقيقي.
فشتانا بين من يناضل حبا في الوطن والذود عن المقهورين، وبين من يهدف المناصب والغنائم، لا يستطيع هؤلاء تقبل اللوم والعتاب والنقد البناء، ولا يقوون على المواجهة الموضوعية والرد عليها بالحجة والدليل الساطع، فأسلوبهم الوحيد في الحجاج هو التخوين والتسفيه وحتى السب والقدف والعنف والتنطع والعربدة، احيانا لغياب امتلاكهم الحكمة والتروي وحقائق الأمور، فهم مجرد عقليات لا واعية، وعاء لاحتواء افكار دون العلم بمعانيها ومقاصدها عقول تحمل اثقالا وعليها اقفال لا تستوعب الاعتراض ولا تفهم فيه.
ويبقى أن البلاء الأكبر الذي أبتلينا به، أن هذه الفئة قزمت حجم النضال بحصره في مجال ضيق كما سبقت الإشارة لذلك، فهي لا تساند كل مظلوم أو مضطهد ولا تبالي بكل مقهور نطق صدقا وحقا خارج منظومتها وإطارها حتى لو اقتنعت بصدقية مبادئه.
فالنضال حصري يشمل فقط فيمن يدور في فلكها، جاعلة منه نضال عشائري قاعدته الانتماء وصفاء الدماء الأيديولوجي والعقائدي نضال يتسم بالميز والانتقائية يضرب في العمق كل مبادئ النضال كما هو متعارف عليه بمفهومه الكوني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *