وجهة نظر

لماذا يجب تقوية الصحافة؟

إذا كانت المصداقية، والمهنية، والتكوين العلمي والتكوين المستمر، من التحديات الأساسية للصحافة المغربية بشقيها الورقي والالكتروني، لخوض معركة التنافسية المحمومة، في عالم مازال معولما لا يرحم الفقراء في كل مجال. فإن واقع الحال يفرض اليوم، أكثر من أي وقت مضى، تقوية الصحافة والجسم الصحفي ودعمهما.

هناك مجموعة من المعطيات والحقائق التي لا يمكن تجاهلها. فالسياق الدولي مملوء بالمتناقضات، وليس من باب اللغو القول إننا نعيش فعلا زمن ” اللاقيم “. العديد من القيم النبيلة الدينية والسياسية والاجتماعية، في مهب الريح، فقد تم تشيئ وتبضيع الإنسان في زمن العولمة المتوحشة. والهوة مازالت تتسع بين الدول المتقدمة والدول الفقيرة، الغنى الفاحش في الشمال والفقر المدقع في الجنوب. وستزداد اتساعا في مرحلة ” ما بعد كورونا “.

وما هجرة الشباب، والنساء الحوامل، والأطفال، من الدول الفقيرة خاصة من افريقيا، بحثا عن لقمة العيش وعن البقاء في الحياة خارج أوطانهم الأصلية، إلا مظهر من مظاهر انعدام العدالة الاجتماعية عالميا.

ونعيش عولمة الحروب، ضحاياها المستضعفون في الأرض العربية خاصة. والآن، نعيش عولمة جائحة ” كورونا “.

وطنيا، انعكاسات التطور التكنولوجي بارزة المعالم. شبابنا يقضي يومه وليله في انعزالية تامة حتى عن أقرب الناس إليه في البيت. كل واحد يتنقل بهاتفه النقال من زاوية إلى أخرى، يبحث عن أشياء ليتها كانت مجدية له. ردود فعله، تحتاج إلى دراسات ذوي الاختصاص في علوم النفس والاجتماع.

هذه الحقائق أصبح يدركها المختص والإنسان العادي على حد سواء. ولكن سؤال الساعة هو: ما علاقة الصحافة بكل هذا ولماذا يجب تقويتها ؟

إن الصحافة المواطنة، مطالبة بصياغة رسائل مقنعة لتمكين المواطنات والمواطنين، خاصة الشباب، من اتخاذ الرأي والموقف السليم تجاه ما يتلقونه من سيل من الأخبار والصور يوميا، على مدار الساعة، عبر الشبكات العنكبوتية، يصعب تصديق الكثير منها.

وبإمكان الصحافة الجادة والمهنية مساعدة المتلقي (القارئ والمشاهد) على فهم ما يجري عن طريق العديد من الأجناس الصحفية من بينها التقرير والتحقيق والحوار والمقالة المتخصصة (…)

كما أن الصحافة مطالبة بمواجهة المنافسة الشرسة لوسائل الإعلام الأجنبية خاصة تلك التي تتناول قضايانا الوطنية بخلفيات عدائية. ولا يمكن تفنيد مزاعمها بكلام سطحي. فالمطلوب توفر المقاولة الصحفية على جسم صحفي قوي، حرفي، له القدرة العلمية على التحليل والبرهنة والحوار مع المختصين والخبراء من المشارب العلمية المختلفة. وهي شروط لا يمكن أن تتوفر في صحافة ضعيفة من حيث مواردها البشرية والمالية.

من جانب آخر، لابد من تمكين الصحافة من القيام أكثر بدور الوسيط بين الدولة والمواطن(ة)، وتحقيق الإسهام الفعلي لجمعيات المجتمع المدني وهيئات المساواة وتكافؤ الفرص في مشاريع الجماعة والعمالة والإقليم والجهة.

كما أن التعبير بحرية عن الرأي وتقوية روح الحوار البناء داخل المجتمع، ضرورتان اليوم. والصحافة آلية من آليات تحقيق الديمقراطية.

ولا ينبغي تكميم الأفواه في زمن عولمة التكنولوجيا المتطورة.

وإذا كانت الانتخابات النزيهة شرط لإشراك المواطن(ة) في تحديد مستقبل البلاد. فهي لاتحل إلا بعد سنوات. لكن، الصحافة الحرة، تمكن المواطن(ة) من التعبير عن آرائه ومواقفه، وهمومه، وقضاياه، كل يوم. والحصيلة، لا خوف على الوطن، لأن الكل يعبر دون خوف.

تتعدد الأسباب التي تفرض تقوية الصحافة، والوسيلة واحدة: الحرية. وتعني حرية الصحافة فك القيود عن الإعلام، وتبديد المعيقات التي تحول دون التعبير الحر عن الأفكار.

إن حرية الصحافة تتعدى حرية النشر إلى حق الصحافي في الحصول على المعلومات، وحق المواطن في فهم هذه المعلومات لاتخاذ القرارات السليمة. والمتمعن بعمق في فلسفة الجهوية المتقدمة يدرك أن روحها هي الديمقراطية التشاركية. ويمكن للصحافة أن تؤدي أدوارا مهمة في هذا الاتجاه وفي اتجاه صنع نموذج تنموي، واقعي. خاصة أن ما ينتظرنا من تحديات ورهانات بعد اجتياز جائحة كورونا، لم يكن في حسبان أي مفكر أو منظر أو سياسي، حتى عالميا.

وقد يقول قائل أين نحن من مشروع الجهوية المتقدمة، وأين نحن من مشروع النموذج التنموي الجديد مع ما دمرته جائحة كورونا. ومن حقه ذلك، لكن دعنا نقول إن الحياة ستستمر بعد هذه الجائحة. وإذا كان من درس ينبغي الاستفادة منه، فإن علينا أحزابا ومثقفين وإعلاميين وأفراد، مواجهة تحديات ما بعد هذا الوباء بتحديات أكبر ومنها التنزيل السليم للجهوية المتقدمة، وإرساء مشروع النموذج التنموي المرتقب على أسس قوية.

نحن في حاجة إلى ممارسة النقد الذاتي، حكومة، وأحزابا، ومجتمعا مدنيا، وأكاديميين، ومثقفين، وإعلاميين.

ويجب أن نجعل حدا للعبث وللفساد الإداري الذي يشل الاقتصاد والمجتمع. وأن لا تبقى الحكامة وأخواتها، مجرد كلام يتم تداوله في المنابر الإعلامية وفي الخطابات السياسية.

إن الأسس القوية التي يجب أن ترتكز عليها مشاريعنا التنموية في مرحلة ما بعد كورنا هي: الروح الوطنية أولا، والسياسات العمومية الواقعية ثانيا. ولا يكفي هذان الشرطان، فالشرط الذي من دونه لا يمكن تحقيق أي تقدم هو ضرورة تغيير العقليات، والقصد عقليات التدبير. فكما يقول عالم الإدارة ” داراكار ” (P. Drucker) ليس هناك دول متخلفة وإنما هناك دول تدبر شؤونها بشكل متخلف.

« Il n’y a pas de pays sous- développés, il n’y a que des pays sous-gérés »

إن تغيير العقليات مشروع مجتمعي طويل الأمد. وقد عمدت السلطة العليا في البلاد في التسعينيات من القرن الماضي على تجديد وتغيير مفهوم السلطة، ونجحت إلى حد مقبول في ذلك. وهو ما يؤكده الواقع اليومي المعاش خاصة لدى الممارسين في مختلف القطاعات من جماعات وفلاحة وصحة (…)

واليوم، نحن في حاجة إلى تغيير عقليات المدبرين الممارسين في كل القطاعات، من خلال التكوين والتكوين المستمر. ومن خلال تقوية التربية والتعليم والإعلام، بالنسبة للشباب الذين هم في طور التكوين.

وكم هي الفرحة كبرى، ونحن نرى مغاربة شباب، يشاركون بقوة في تدبير أزمة كورونا، عالميا. ولنا في الشابة/الدكتورة، خريجة كلية ابن مسيك سيدي عثمان خير مثال.

هي وغيرها من الكفاءات المغربية، وهم كثر في وطننا الحبيب، في حاجة إلى دعم الدولة من خلال تشجيعهم ودعم البحث العلمي ماديا ومعنويا. وفي حاجة إلى دعم وسائل الإعلام بمختلف أنواعها. ولا يمكن للإعلام القيام بهذا الدور الوطني، إلا بتقويته.

وأخيرا، يرى أحد المفكرين أن الحاجة للرأي المخالف لرأي الدولة أشد إلحاحا من الحاجة للرأي الموافق. ولا يسد الحاجة للرأي المخالف إلا صحافة متحررة.

فهل ستكون مرحلة ” ما بعد كورونا ” مرحلة الاقتناع بالدور المحوري للصحافة المواطنة والمهنية، في المساهمة الفعالة في إيجاد الحلول لمعضلات التنمية، التربية والتعليم والتشغيل والتطبيب (…)

ولا تنمية في غياب التعبير الحر للمواطن. وهو ما يعني الاقتناع بأن الصحافة والصحفيين في حاجة إلى حرية أكثر.

وهو ما يعني كذلك، أنه لا حاجة إلى التفكير في تقليص مساحات التعبير والرأي، فالتطورات التكنولوجية التي أتاحت الفرص للتعبيرات المختلفة، منها الغث ومنها السمين، لا يمكن الحد من تأثيراتها بالقوانين المجحفة والخانقة، وإنما بتقوية الإعلام المضاد، الجاد والمهني.

• إعلامي وباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *