منتدى العمق

دولوز حول تورنر:  الفرشاة الشكسة

فتنة السؤال الفني و الجمالي، ذلك ما يمكننا تأكيده إذا تساءلنا عن فلسفة دولوز، هذه الذريعة الجمالية  تبرر  انشغال دولوز بتورنر J.M.W Turner،  الرسام البريطاني الذي حوَّلَ تعلقاته الطبيعية إلى “اكتشافات” عظيمة للواقع الأكثر فنية خلال أعماله المتأخرة. أمشاج و تداخلات، دوامات عاصفة، تعاندات عنيفة،  أشياء لا تقدر بثمن في عالم لا يكف عن التنكر لقوى الجمال والاختلاف، باسم ميل أخرق للتلاؤم و الانسجام ولصالح انغلاقاتهِ الهوياتية .

ليس الجمالي سوى المتعدد، في اختراقاته و تشويشاته، ذلك الانفلات و التوتر الاشتدادي. الفن العظيم يفرض هذاءاته فقط، الاندفاع بدلاً من المهادنة، تأزيم التعاندات بدل المصالحة. يتعلق الأمر باكتشاف ما هو أسمى و أرفع من كل هوية، ردد دولوز هذه العبارة خلال ملاحقته لألغاز الجيولوجيا، ألغاز أوحت له بأن تشكل الأرض لم يحتج لوقت طويل، اهتزازات عنيفة كانت كافية لتعلنَ  ميلاد الجمالي من إرادة القوة .

من “ألف ربوة”  إلى” ما هي الفلسفة ؟ “، دأب دولوز و غاتاري على توليد التمايزات، لم يسعيا للتقعيد لشيء ما أو البحث عن أرضِ أكثر ثباتا وأماناً، كان هناك دوما سبيلٌ لشقه في عالم ” يتجدد “.

البحث عن ” الجِدَّة ” كانَ خيارا فنيا صاعداً، ” le courbusier“/شارل إدوارد، قام بعمل مدهش وهو يستغل الاهتزازات بين الألوان أو بين الضوء و الظل، لبناء صورة هندسية متحركة لأكثر الأبنية صلابة. بيتر إيزنمان Peter Eisenman أحد رموز هذا ” الفن الصاعد ” أيضا، خلال تصميمه لتحفة فضاء ريبستوك بارك بمدينة فرانكفورت Rebstockpark site in Frankfurt، كشف عن الإمكانيات الجمالية و الفلسفية  للأسطح، الخروج عن التراتب الهرمي لنظام التشابه و التعادل و استبداله   بالانثناءة .

يرى دولوز  أنَّ كل هذا الواقع الفني الضاج في تعانداته و اختلافاته  يتراجع حينما يتعلق الأمر بالفلسفة لصالح مقولات  التبرير و المصالحةReconciliation  . إنهم لا يرون في تعاندات الوجود عدالة ما، فكرة التطهير تقدم العناصر الكافية لطمأنتهم،  بينما وجد  دولوز نفسه مصاباً بغريزة لعب لا تقاوم، ذلك الفن المرهف الذي يربطنا بناي ديونيزوس، المعزوفة الخالدة عوضاً عن ” الأناشيد المنكسرة “  للتبرير . إننا ننتمي لاختلاف يصنع تأزماته في مسار المحايثة immanence،  لا يمكن رده إلى أي إرادة متعالية “  cannot be redeemed by reference to a will outside this world  ( أحد اكتشافات  اسبينوزا ) .

لفتَ دولوز الانتباه لتورنر في موضعين أساسيين خلال عمله المشترك مع غاتاري ” ضد أوديب Anti_Oedipus “،  إشارات قصيرة و مكثفة، حذرة و دقيقة، ينبثق عنها موقف معقد . هذه الكثافة  تعبر عن الرهانات الأسلوبية للعمل برمته .

” خلال زيارة لندن، بيثياPythia  هناك،  تورنر أيضا، يراقب لوحاته بتركيز، يعلمنا كيف نتسلق جدارا و نتوارى خلفه، نتوارى كي نسمح للتدفقات بالمرور، لسنا معنيينَ بالتساؤل عن المكان الذي ستحملنا له أو إذا كانت ستعود لتغمرنا مجددا . رسومات تورنر تمتد على ثلاثة مراحل، سنلاقي العديد من فضوليي علم النفس في المرحلة الأولى، حيث نهاية العالم و الانهيارات الثلجية و العواصف، أعمال المرحلة الثانية انخرطت في مقاومة ” الهذاءات ” و إخفائها أو مساواتها انطلاقا من التقنية الموروثة من بوسين Poussin، لورين Lorrain و التقليد الهولندي ; تأهيل العالم عبر الآثار التي تتخذ مضمونا  حديثا، لكن شيئا لا يضاهى حدث في المرحلة الثالثة، لا يتجه تورنر للتقدم على زمنه فقط، هنالك ديمومة قادمة من ” مستقبل أبدي ” أو تهرب نحوه . تقحم اللوحات نفسها في تحويلات متعددة، يخترقها ثقب، بحيرة، إعصار. تتمزق الأقمشة و يمتزج كل شيء و يلتبس Everything mixed and confused، يتعلق الأمر بفتح منفذ لقوى الخارج .”

دولوز و غاتاري _1984

استعادة دولوز و غاتاري لتورنر، لها أوجه سياسية، أخلاقية و منطقية كذلك . عمل تورنر أساسي في الانفصال عن الهوية و عن قمع الرغبة كحركة و تغيير . بخصوص المنطق و فلسفة اللغة، فالسؤال ينشأ من إمكانية ” الخرق ” الجذري للقواعد دون الوقوع تحت طائلة ” اللا معنى ” . نص ” ضد أوديب ” كتب تحت تأثير أحداث 68 و في سياق أسئلة أخلاقية و سياسية ذات ملحاحية استثنائية،  يقدم تورنر بعض عناصر الجواب الفني حولها، في الوقت الذي كانت تتجه قوى الارتكاس لإدانة الحياة أخلاقيا، واجهت فرشاةً شكِسة تتمسك  بتأييد الحياة و إثباتها .

يرى دولوز أن تورنر تحرر من ” النزوع التمثلي ” فقط خلال أعماله المتأخرة، مرحلة الاستنفار الذي يحول الأشكال المحددة على نحو دقيق إلى اختلالات تتحلل داخل انفجارات الضوء و اللون. لحظات السمو الجمالي لتورنر، انطلقت بعد فك الارتباط بتأثير بوسين و لورين  Poussin and lorrain  و كل ذلك الجنون الأسطوري .     

التمييز بين هذه المراحل ضروري للوقوف على الاختلافات التي لحقت هذا المسارالإبداعي، رغم أن تفسيرا أكثر عمومية يتجه لتوحيد أعمال تورنر  داخل بعدها الرومانسي و ارتباطه العاطفي و الوجداني  بالطبيعة . لنتذكر كيف أنَّ جون ويلتون في أحد معارضه حول تورنر، سيتحدث   قائلا ” ككل الكائنات الحية، لا يمكننا أن نقاوم الانجذاب لسمو الطبيعة، أعمال تورنر تتيح استمرارية هذا الانجذاب. هذا الميل الغريزي للطبيعة،  هو ما يحثنا و يدفعنا دوما للثناء على تورنر” .

سعى تورنر للكشف عن الوجه الفاتن للطبيعة، كظاهرة جمالية، تشكلها ” قوى ” تتجاوز القيم و المقاييس البشرية “  .

سيشير  غاغ ( Gage) إلى أن علاقة تورنر الملغزة  بالطبيعة، تتحدد عبر رمزية شاعرية معقدة،  تُخلص فنه من ” الانسجام اللوني  ” لكي يعبر عن  احتدامات الضوء و العتمةthe conflict of light and dark  .

غاغ( Gage) إلى جانب روسكين john Ruskin، حددا   عمل تورنر الأساسي في إبراز ” قلق الطبيعة ” من خلال تفسيرات أسطورية تمتزج بالمناظر الطبيعية و تحركها ” قوة اللون ” . آراء روسكين حول أعمال تورنر، سعت لتوضيح ” انشغالاتها الفكرية intellectual capture of the forces of nature  “، الانشغال الذي  كانت تعبر عنه الأسطورة، لهذا كان روسكين وفيا لتورنر و خصما عنيدا للاتجاهات التي حاولت مناهضة استعمالاته السوريالية للون خلال الأعمال المتأخرة .

التركيز على ” الأصفر” في حركته الذاهبة بين الأحمر و الأزرق، هكذا يصنع تورنر ” تلعثماته الفنية ” التي تحاول قول كل شيء . سيلقي ويلتون عبارته السحرية  ” كل شيء أصفر all is yellow ” أو كل شيء مآساوي و لسنا مستعدين لتبرير أي شيء .

رفض دولوز و غاتاري اختزال استعمالات تورنر الفصامية للون  و الضوء في الأسطورة، مسألة اللون و الضوء تحتاج مقاربة هادئة، مقاربة تعي قدرتها الرهيبة على إخراج الطبيعة من صورة توحدها الساكن . التلاوين لعبة الصيروة، الجمال اللا متناهي  المخيف، في حين أن ” الأشكال ” دائرة لتعددات التحديد . وجد دولوز في أعمال تورنر حلولا شاعرية كثيفة  لمشكلة ” الانغلاق الذاتي”  الذي ارتبطت به عاداتنا الساكنة في فهم الفن .

كان تورنر فناناً استثنائيا، وحده حرر التلاوين و جعلها عناصر أساسية للرغبة elements of desire.

* ترجم هذا النص من مساهمة المفكر الانجليزي و الباحث بجامعة Dundee ويليام جايمس حول دولوز بعنوان ” deleuze on J.M.W.Turner ” ، في إطار  مشروع بحثي نشره مختبر جامعة warwick للدراسات الفلسفية الأوروبية تحت عنوان ” deleuze and philosophy  :  the difference engineer “.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *