وجهة نظر

الفقه بين منطق الشرع وسؤال القيم عند طه عبد الرحمن

تنبني الأحكام الشرعية المُنزلة على مجموعة من الضوابط التشريعية و الأخلاقية على السواء. غير أن المصادر التأسيسية للفقه وأصوله انشغلت بالأبعاد التشريعية والصيغ القانونية، دون الأبعاد القيمية والمقاصدية، التي تنطوي عليها الأحكام والأوامر الشرعية، الأمر الذي نتج عنه الفصل بين المقتضى الفقهي و المقتضى الأخلاقي لهذه الأحكام والأوامر.

وشكل الفصل بين الوجهين الفقهي والأخلاقي للحكم الشرعي حدثا جللا في تاريخ الممارسة الشرعية الإسلامية، حيث نتج عن هذا الحادث ما يسمى ب”الفتنة النصية الكبرى” والتي أفضت إلى التفريق بين طائفتين من المسلمين هما: طائفة أهل الظاهر: “وهم الذين وقفوا عند حدود الوجه الفقهي القانوني من الحكم الشرعي، دون الوجه الأخلاقي منه”، وطائفة أهل الباطن: “وهم الذين وقفوا عند الوجه الأخلاقي للحكم الشرعي، دون الأخذ بالوجه القانوني منه”.

وقد ترتب عن هذا الفصل، أن سقط العقل الفقهي الإسلامي في آفات قيمية على مستوى الممارسة الشرعية والفقهية، حيث انصب اهتمام الفقهاء على المقوم الفقهي القانوني من الحكم الشرعي ، مع إهمال المقوم الأخلاقي منه، مما أدى إلى تحول الفقه، إلى فقه صناعي يشتغل بالعلاقات الصورية المجردة، بعيدا عن روح الشرع ومقاصده.

وقد تفطن لهذه الأزمة القيمية مجموعة من المفكرين المعاصرين، وكان من بين هؤلاء الفيلسوف المغربي “طه عبدالرحمن” ، الذي انبرى لتقويم هذه الاختلالات، وذلك عبر استحضار سؤال مركزية القيم ضمن النسق الفقهي الإسلامي، حيث عمل على إبراز العلاقة الدقيقة التي تجمع الفقه بالأخلاق في الشريعة الإسلامية، والقائمة على الوسطية الشرعية التي تحفظ التوازن بين المقتضى القانوني والمقتضى الأخلاقي للحكم الشرعي.

فما هي أهم معالم المجهود الفكري “لطه عبد الرحمن” الرامي لتقويم الاختلالات الناتجة عن انفصال الفقه عن الأخلاق في الممارسة الشرعية الإسلامية؟ وماهي حدود الصلة بين الجانب التشريعي والجانب الأخلاقي في المنظومة الفقهية الإسلامية من منظور” طه”؟

يعتبر “طه عبد الرحمن” أن الإسلام بمقتضى الحديث الصحيح ”إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” عبارة عن رسالة أخلاقية مثلى، حيث ينبني الأمر الإلهي -أو الحكم الشرعي-على مقومين إثنين: قانوني وأخلاقي، مع وجود تفاوت بينهما، إذ يقدم المقوم الأخلاقي على المقوم القانوني، لأن فائدة الأمر أو الحكم ليست في التطبيق الخارجي، من حيث هو كذلك، ولكن في الإصلاح الخلقي الذي ينتج عنه. (روح الدين، من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية ص402).

ويذهب “وائل حلاق” في نفس طرح –”طه”-في فهم الشريعة، معتبرا إياها أخلاقا بالدرجة الأولى، وليست أحكاما وقوانين فقط، و أنها في الجوهر عبارة عن”مجموعة من مبادئ أخلاقية مدعومة بمفاهيم قانونية”، وهذا القانون الأخلاقي هو المعبر عن الوضع النموذجي للشريعة من حيث هي “نظام أخلاقي يشكل فيه القانون أداة وطريقة خاضعتين للمنظومة الأخلاقية من دون أن يصبح ذلك القانون هو الغاية الأخيرة، فالقانون في الشريعة أداة للأخلاق وليس العكس”.(الدولة المستحيلة ص 43-44).

ويوضح طه عبد الرحمن “أن أهمية الأخلاق في الإسلام لا تقل عن أهمية الفقه، ومع ذلك لم تحظ بما حظي به الفقه من بالغ الاهتمام، حيث انصب اهتمام الفقهاء على المقوم القانوني من الأوامر الإلهية، بينما المقوم الأخلاقي منها فلم يحظ بنفس الاهتمام، إن لم يقع إهماله”، وقد أدى هذا الإهمال إلى فتنة كبرى تمثلت في انفصال الفقه عن الأخلاق في الممارسة الفقهية – الأصولية الإسلامية العربية، بحيث تحول الفقه إلى علم آلي، يشتغل بالعلاقات الصورية بين أحكام يتم الجمود على ظواهرها(ثغور المرابطة 116).

وقد نتج عن هذا الأمر تقلب الممارسة الفقهية في طورين: أحدهما الطور العفوي، الذي أفرز الفقه الحي الذي منشأه الفطرة الروحية، والتي تحمل في طياتها معاني الدين، وسمي أيضا ”بالفقه الروحي”، والثاني هو الطور التقني الذي أنتج الفقه الصناعي، الذي منشأه البنية النفسية، و سمي ب”الفقه النفسي” والذي شكل غطاء حجب الفطرة الروحية. غير أن الفقه الصناعي لم يستطع ــ حسب طه عبد الرحمن ــ ”أن يطور آلياته، ويضع قواعده ويرتب أدلته إلا بالتخلص من الجانب غير المنضبط من الأمرية ”، الذي هو الجانب الخلقي الذي مصدره الفطرة، مكتفيا بالجانب المنضبط منه، الذي هو الجانب القانوني. ويضيف فيلسوفنا “طه” ، “بينما الفقه الحي كان يجمع بين الجانبين في العبادات والمعاملات، جاعلا الجانب الأخلاقي أصلا والجانب القانوني فرعا”. وهكذا تحول الفقه الصناعي -حسب “طه ” إلى مادة اختصاصية، استأثر الفقهاء فيها بالتعامل مع النصوص التأسيسية، كما استأثروا أيضا بتحديد السلوك التعبدي و التدبيري بحسب ما يوصل إليه هذا التعامل المقنن من الأحكام الفقهية. كما أن السنة العملية لم تعد تحتل في الفقه المكانة البارزة التي كانت لها، وأصبحت السنة القولية هي التي تحتل فيه الصدارة، مما أدى إلى إنشاء الفقه التقديري حتى وصل الأمر إلى الإغراق في الفقه الفروعي، وصار هذا الفقه يرمي الى تقوية المظاهر الاجتماعية للتعبد وتقنين التطبيق الجمعي للشعائر، هدفه تثبيت الوضع المجتمعي والسياسي القائم، غير مهتم بتزكية باطن الفرد، ومعنيا فقط بضبط سلوكه الخارجي، وأضحى الأصل في تقويم الأعمال هو الظاهر، بعد أن كان هو الباطن، واقفا عند الرسوم الظاهرة و الطقوس المقررة للتعبد( روح الدين، ص 404).

وفي إطار سعيه لتشخيص معالم أزمة العقل الفقهي الإسلامي، يميز الفيلسوف “طه”، بين:

– الفقه التقنني الذي يشتغل بتقنين الأوامر الشرعية مع جمود على ظاهر العلاقة الإجبارية فيها، مركزا على الجانب القهري أو الإجباري في العلاقة الأمرية، مسقطا من الاعتبار شرائط وسياقات علاقة الإنسان بالإله، ومقتصرا على ظاهر أمريتها؛ جاعلا الأمر الإلهي على مقتضى الأمر البشري الذي قوامه التسلط على الإرادة( ثغور المرابطة، ص 175)، متجاهلا أن الشريعة لم تسع إلى بناء وضع قانوني محدد للسلوك البشري –كما هو الشأن مع القانون الوضعي- بل هي أمرية مضادة، هدفها الحد من طغيان الأمرية البشرية بواسطة تدابير بديلة عن قراراتها الطاغية(روح الدين، ص 380).

وما أسماه بالفقه التعرفي، وهو الذي يشتغل بردّ الأحكام الشرعية إلى القيم الأخلاقية التي تحتها، عوض أن يشتغل بالصور الفقهية المجردة لهذه الأحكام، وهو على خلاف الفقه التقنني، يعتبر الأوامر الإلهية عبارة عن خيارات تحجب صفة الإجبار وليست إكراهات، وأن الأمر الإلهي لا يتسلط على إرادة الإنسان، بقدر ما يحررها من الأهواء، كما أن هذا الفقه يثبت أسباب الأوامر و ظروفها، مستخرجا أرواح هذه الأوامر، والتي هي القيم المُسددة المنطوية فيها ( ثغور المرابطة، ص 177).

وتأسيسا على هذا التمييز يكشف، “طه عبد الرحمن”، أن علاقة الإنسان بالأوامر والأحكام الإلهية، لم تكن في الأصل علاقة تبادل مصالح مادية قائمة على الإجبار، كما هو الشأن في القانون الوضعي وأصوله بصورته الغربية، وإنما هي علاقة تقوم على مبدأ تقديم اعتبار القيم على اعتبار الأوامر، حيث أن الاشتغال بالأوامر لا يترتب عنه بالضرورة الاشتغال بالقيم التي في طيها؛ في حين أن الواجب ـ حسب طه ـ تقديم الاشتغال بالقيم حتى يُنتفع بالأوامر( ثغور المرابطة، نفس ص).

غير أن الفقهاء حصروا الفقه –حسب “طه” في بعده الصناعي التقنني، و جعلوه مرتبطا بالصورة المجردة للأوامر الإلهية وظواهرها، واختزلوا الدين كلّه في الجانب الأمري وحده، دون أدنى تطلع إلى معاني الأحكام والأوامر المنزلة الدالة عليها، ولا إلى ما خفي من مقاصدها، مع إهمال شبه كلي للقيم الخلقية المنطوية في هذه الأحكام والأوامر الشرعية، في مخالفة صريحة لمقاصد الشريعة الإسلامية. مما قد أدى إلى الوقوع في محذورين إثنين: أحدهما قصر الأخلاق على جزء محدود من أفعال المكلفين، وفي هذا جهل بحقيقة الأخلاق، والمحذور الآخر، اعتبار الأخلاق من المقاصد الكمالية، وفي هذا سواء فهم لحقيقة الدين ( سؤال الأخلاق ص 153).

وعلى الجملة، فالفقه في أصله، حسب “طه”، ليست معرفة نفسية مقننة، شأن الفقه الصناعي، وإنما معرفة روحية حية، فليزم أن قوانين الأعمال الظاهرة تتبع أصول الأخلاق الباطنة وتتفرع عليها ( روح الدين، ص 422).

وتأكيدا لهذه الرسالة الأخلاقية للشريعة الإسلامية يبين ــ “طه” ــ أن الأحكام المُنزلة، إنما هي آيات تكليفية تقترن بمقاصد أخلاقية، وأفاق روحية وفقا للفهم الأمثل والسليم لحقيقة مقاصد الدين الإسلامي وأحكامه، حيث ازدوج في هذه الأحكام المنزلة ــ على خلاف غيرها ــ الجانب القانوني بالجانب الأخلاقي ازدواجا لا انفكاك معه (بؤس الدهرانية ص 104).

ولكي يستوفي الفقه كماله وشروطه، يجب أن يقترن جانبه القانوني بجانب تعرفي، حيث يتوجب معرفة الأمر سبحانه و تعالى، وذلك لكون القانون الإلهي ليس كالقانون الإنساني، حيث لا يمكن فصله عن مُنزله سبحانه و تعالى، و أيضا لكون الغاية منه ليس معرفة هذا القانون بذاته، وإنما التوسل إلى معرفة مُنزله، فلا يجوز حفظ الوسيلة وإهدار الغاية ( ثغور المرابطة 116).

ويتحصّل لدينا أنّ كل حكم شرعي مقترن اقترانا بأصل أخلاقي، بحيث أن هذا الاقتران والتلازم بين الصورة القانونية والصورة الأخلاقية، هو الذي يجعل الواحدة منها تصحح الأخرى، و توجهها في مسلكها و تحفظها في حدودها، فيندفع الجمود على الظاهر كما يندفع الانكفاء على الباطن، مما ينتج عنه اعتدال سلوكي و اتزان فكري يجعلان الشريعة الإسلامية تنبني على قيم الوسطية الشرعية القائمة على حفظ التوازن بين المقتضى القانوني و المقتضى الخلقي في الأحكام. ولا يمكن للوسطية الشرعية أن تقوم إلا بعد أن يحصل أمران معا: أحدهما: “تأسيس القانون على الأخلاق” بحيث لا عبرة لحكم قانوني لا أصل خلقي له، والثاني” تسديد الأخلاق بالقانون “بحيث لا عبرة بفعل خلقي لا وجهة قانونية له ( سؤال المنهج ص 90).

في المحصلة، حاول “طه عبدالرحمن ” تقويم بعض جوانب الدرس الفقهي التقليدي ،والذي جعل الأخلاق أشبه بالترف السلوكي منه بالضرورة الحياتية و حصرها في نطاق ضيق من الفقه، منتقدا تبني هذا الفقه للصبغة المادية التي هيمنت على تحديد المصالح والقيم ، والمعارضة لأصول شرعية، والمخالفة لقيم الشريعة الإسلامية. وقد أوضح فيلسوفنا، أن المطلوب تجديد الدرس الفقهي عبر تقديم اعتبار الجانب المعنوي والقيمي على الجانب المادي من الأحكام الشرعية والأوامر الإلهية، وذلك لكون القيم الخلقية هي فرع أساسي من فروع مقاصد الشريعة الإسلامية كما عمل فيلسوفنا على إبراز العلاقة الدقيقة التي تجمع بين الأخلاق والفقه في الشريعة الإسلامية، والتي تجعل الأخلاق أساسا ينبني عليه الفقه، وتجعل الفقه يوجه هذه الأخلاق، تحقيقا لسلوك معتدل، متوازن، ومرغوب فيه اجتماعيا وإنسانيا، وذلك بيان لقيم الإسلام الأخلاقية، المؤسسة على وسطية شرعية توازن بين المصالح الأخلاقية والمصالح القانونية. وهو الأمر الذي يتحصل معه أن الوفاء بمقتضيات الحكم الشرعي يبقى موقوفا على القيام بشرائطه الأخلاقية.

كما يتحصل لدينا كذلك، أن الفقه المنسجم مع خطاب الشرع ومقاصده، هو الفقه الحي الذي يتفرع فيه القانون عن الخُلق، القائم على إقامة الأحكام على الأخلاق وفق مقتضاها الأمري السليم، أي قوانين وأخلاق، والجامع بين المقاصد الأخلاقية والآفاق الروحية للأوامر الإلهية، وليس الفقه الصناعي التقني الذي مثله كمثل أية صناعة أخرى من حيث إمكان أن تُطلب به المنافع الدنيوية والمكاسب المادية.

* باحث في الفكر الإسلامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • بدر الدين اليعقوبي - باحث في علم النفس الاجتماعي
    منذ 4 سنوات

    مقال عميق ومتميز تحيات احترام وتقدير للأستاذ الباحث والمفكر المتميز: سيدي رشيد المزرياحي؛ الرجل الشهم