رمضانيات، لنا ذاكرة

اللحم بالفاكهة والعسل.. هكذا ورث المغرب أطباقا عمرها أكثر من 3000 عام

كثيرا ما كانت اللحوم والأسماك من الأطعمة المرتبطة بالمكانة الرفيعة في العهود القديمة، وكان استهلاكها بكميات كبيرة دلالة على الثراء، وإن كان لا يعني أن الفقراء لم يكن بوسعهم شراء اللحم.

وقد شكلت الأطباق التي تعتمد أساسا على اللحم جزءا مهما من قائمة الأطباق التي عرفتها مختلف الحضارات الإنسانية، فقد تم طهي هذه الأطباق بطرق مختلفة، كان مما وصلتنا في هذا الباب، يرجع الفضل فيه إلى الحضارة البابلية، أي قبل 3 آلاف سنة ، وهي أطباق كانت بمثابة الطائر الذي حط بجناحيه في كل أرض مر منها، من مدن أرض الإغريق والرومان مرورا بأرض العراق مرة أخرى زمن الخلافة الإسلامية؛ ليحط الرجال بشكل نهائي بأرض المغرب والأندلس؛ والتي أصبحت هي المستأمن على كل ذلك الإرث؛ في فاس ومراكش ؛ وذلك حين نفتح غطاء الطاجين لتناول طبق اللحم بالمشمش أو التين المعسل.

1. مصر و بلاد الرافدين الولادة الاولى للطبق

شكلت بلاد الرافدين الأرض الأولى لانبثاق أعظم الحضارات، وقد شكل الطبخ جزءا مهما من تفرد هذه الحضارة التي بسطت أجنحتها على بلاد العراق الحالية، وجزء غير يسير من بلاد إيران وتركيا الحالتين، وإذا لم يصلنا سوى وصفات قليلة من هذه الحضارة، حيث ضمت الاستثناءات 35 وصفة منقوشة على 3 ألواح طينة ترجع إلى زهاء 1650 سنة ق م، وهي أقدم وصفات غذائية معروفة أشارت إلى استعمال الفواكه كالتفاح والعنب والرمان والمشمش والخوخ والسفرجل في الطبخ، وإن كان لم يصلنا سوى وصفة واحدة، وهي وصفة اللحم بالزبيب، لكن هذا لا يعني أنه لا توجد وصفات أخرى استعملت فيها أنواع أخرى من الفواكه المجففة . (راجع كتابة الطبخ في الحضارات القديمة ص 94).

أما حضارة النيل في مصر القديمة؛ والتي تعود الى ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، فقد عرفت بدورها مطبخا ثريا، لم يصلنا منه حسب علماء المصريات؛ سوى النزر اليسير مما اكتشف في أوراق البردي وجرار الأطعمة المدفونة مع المومياءات، ومن ضمن ما وصلنا من الوصفات، طبق كبد الإوز مع التين؛ وهو الطبق الذي يتم طهيه مع عصارة الرمان والخمر.

2. الاغريق والرومان: الصلصة الحلوة الحامضة

تعتبر الصلصة الحلوة الحامضة أحد أهم التقاليد المترسخة في المطبخ الإغريقي؛ وقد أصبح كتاب الطبيب اليوناني انتيموس في الأغذية دليلا في تلك الحقبة، حيث أضاف انتيميوس إلى مرق لحم البقر الخل والعسل وأنواعا من الأعشاب والتوابل، (راجع بلقيس شرارة كتاب الطباخ ص 189 ). ويصف فيلوكسينيوس وهو شاعر من القرن 4 ق م وجبة كبيرة في قصيدة “الوليمة” تشمل أسماكا بحرية متعددة بينها الحبار والروبيان المغطى بالعسل.

وأما أبيكوس الذي عاش زمن الإمبراطور تيبيريوس ( 42 ق م 37 م )، فقد قدم في كتابه ” فن الطبخ ” [وهو أقدم مرجع عن الكبخ الأوربي] عدة أطباق ثم إعدادها باللحم والفواكه، من ضمنها طبق لحم الخنزير المطبوخ بالعسل المضاف إليه الحمص والشعير والتين، وطبق اللحم بالسفرجل وهو فاكهة من الفصيلة التفاحية؛ وكذلك طبق النقانق بحبات الرمان والعنب الأسود، ( كاتي كوفمان الطبخ في الحضارات القديمة ص 263 وما بعدها ).

3. الحضارة العربية الاسلامية صاحبة الإرث

عندما سيطر العرب على بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين، كانت حضارة تلك البلاد وهي حضارة الامبراطورية البيزنطية والساسانية بفخامتها تمر بمدة غروبها وشحوب بريقها.

وقد أخذ العرب حين نقلهم لعاصمة الخلافة إلى الشام ثم بغداد بعد ذلك، نصيبا وافرا مما ورثوه عن الحضارتين الفارسية البيزنطية؛ فقد فضلوا اتباع الفن الرومي أو البيزنطي في معالجة اللحوم؛ كما تأثروا بالمطبخ الفارسي فأخذوا عنه البارد والحلويات؛ ودليل ذلك قول الأصمعي: “اختصم رومي وفارسي في الطعام فتحاكما بينهما إلى شيخ أكل طعام الخلفاء، فقال: أما الرومي فذهب بالحشو والأحشاء وأما الفارسي فذهب بالبارد والحلو”، (ابن قتيبة عيون الأخبار ص 204).

وقد أضاف الخلفاء الى تقاليد المطبخ الفارسي والبيزنطي والساساني الذي يعتبره الكثيرون هو من هيأ ظروف تأسيس المطبخ العباسي من خلال نوع طعامه (خورشت) الذي يمزج الفاكهة باللحوم (كتاب الطباخ بلقيس شرارة ص 212 ). وقد ثم تدوين ذلك في كتب لم يصلنا منها إلا القليل، وأقل من أصابع اليد الواحدة؛ ومنها كتاب الطبيخ للبغدادي الذي كتبه قبل سقوط بغداد ب 33 سنة أي سنة 1225 . وقد قدم البغدادي في هذا الكتاب مجموعة من أطباق اللحم والفاكهة والعسل.

يقول البغدادي في كتابه الطبيخ ص 16 : “طبق السكباج وهو اللحم السمين الذي يطبخ بالكسفرة وعود دار صيني (القرفة) والبصل أو الجزر أو الباذنجان؛ فإذا قرب يؤخذ خل خمر ودبس ومن أحب جعل العسل؛ وتمزج مزجا معتدلا في الحموضة والحلاوة؛ ثم يؤخذ لوز مقشر حلو ويترك في راس القدر مع يسير عنب وزبيب وتين يابس وتغطى ساعة حتى تهدأ على حموة النار”.

4. المغرب والندلس : الأمانة التي سيتم حفظها

إذا كان ما تم الإشارة إليه سابقا، من كون الطبخ بالفواكه ومزج الحلاوة والحموضة، كان جزءا من إرث الكثير من الشعوب منذ أقدم العصور، لكن هذا الإرث سيختفي مع مرور السنين عند مجموعة من الشعوب التي عرفته، وذلك لاعتبارات عديدة ليس هذا هو مجال الحديث عنها.

لكن شعوبا حملت على عاتقها المحافطة على هذا الإرث، ليبقى أثرا وشاهدا على كل تلك الحقب، وقد كانت شعوب الغرب الإسلامي وحضارتها في المغرب والأندلس هي من حافظ على تلك الأمانة؛ خصوصا إذا اعتبرنا أن الكثير من الفواكه التي استعملت في إعداد الطبق كانت المزروعات الأصيلة كالتين مثلا ( راجع اصطيفان كزيل “تاريخ شمال أفريقيا ج 1 ص 200 )، بل وطوروا زراعة الكثير من الفواكه كالفستق والرمان والتفاح والمشمش ( راجع كتاب الفلاحة لبن العوام الاشبيلي الجزء 2 ).

واذا اعتبرنا أن الوجود الروماني والفينيقي تواجد في هذه المنطقة إضافة إلى الوجود العربي، فإن ذلك كله سيجعل مطابخ كل تلك الشعوب تمتزج في بوتقة مطبخ سيبرز بشكل كبير مع مؤلفات، مثل كتاب “أنواع الصيدلة في أنواع الاطعمة”؛ لكاتب مجهول من العصر الموحدي، وكتاب “فضالة الخوان” لابن رزين التيجبي وهو كتاب عن الطبخ من العصر المريني.

وقد قدم هذان الكتابان أطباقا عدة من اللحم الممزوج بالفاكهة، المطبوخ مرقه بالعسل والمكسرات. وهي من التنوع ما يصعب إدراجه في هذا المقال، فمنها مثلا ما أورده صاحب كتاب “أنواع الصيدلة في أنواع الأطعمة” كاللحم المعد بالتفاح الذي يمزج مرقه بالسكر والمسك والكافر وماء الورد، واللحم بالفستق المزوج مرقه بالسكر والقرفة وماء الورد، ( ص 106 )، كما أورد الكاتب كذلك طبق اللحم المعد بالعسل واللوز.

أما صاحب كتاب فضالة الخوان فقد أورد بدوره أطباقا من اللحم المعد بالعسل والزعفران؛ واللحم المعد بالتفاح الحلو أو السفرجل ( ص 116)، وكذلك الدجاج المعد باللوز المعجون بماء الورد والسكر (ص 155 )، وغيرها من الأطباق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *