وجهة نظر

الصيدلية الإمبريالية

قدمت قناة الجزيرة تحقيقا مثيرا وخطيرا حول صناعة الأدوية، يكشف حقائق غريبة عن هذا العالم الغامض الذي تتحكم فيه القوى الكبرى في العالم وتتقاطع فيه السياسة بالعلم والحروب. فقد كشف التقرير أن خمس شركات كبرى تستحوذ على 85 في المائة من صناعة الأدوية في العالم. وأن هذه الشركات لا تهتم بالصحة البشرية بل بالأرباح الاقتصادية بالدرجة الأولى.

وكشف أيضا أن هذه الشركات لا تصنع أدوية للأوبئة التي تظهر في افريقيا والبلدان المتخلفة إلا بعد مضي سنوات طويلة (طبعا بعد أن يدركوا بأن هناك ملايين البشر قد ماتوا لكي يتراجع التعداد السكاني لهذه البلدان). على سبيل المثال إيبولا ظهر عام 2013 لكن العلاج لم يظهر إلا في 2016 بعد أربع سنوات وبعد أن قضى على مئات الآلاف من الأشخاص.

وثيقة من منظمة الصحة العالمية عام 2014 كشفت بأن شركات الأدوية لا تهتم بالبلدان الفقيرة ولا تقوم بتصنيع لقاحات للأوبئة التي تنتشر في هذه البلدان، رغم العديد من الطلبات التي تلقتها والتي لم تهتم بها، لأن تلك الشركات لا تريد الاستثمار في بلدان فقيرة لا تدفع. وضربت مثالا على ذلك وباء إيبولا الذي ظهر قبل أربعين عاما لكن لم يتم تصنيع علاج له حتى ذلك الحين، 2014.

تقوم شركات الأدوية بإنتاج أدوية مزورة وبيعها مقابل أرباح خيالية. المثال على ذلك أنفلوانزا الطيور. في عام 2014 طورت شركة أمريكية تدعى جلعاد ـ إسم إسرائلي وإن لم يقل التقرير هذا ـ دواء ضد الوباء ثم باعته إلى شركة روش. كتبت هذه الأخيرة دراسات مزورة حول فائدة الدواء ووضعت عليها أسماء خبراء معروفين لم يقرأوا ما في تلك الدراسات، مقابل المال. ثم ضغطت الشركة على بعض الدول الأوروبية مثل الدانمارك وبريطانيا عن طريق وسيط ثالث، من أجل شراء كميات ضخمة من الدواء المسمى “تامفلو”، فمثلا تم تخويف حكومة الدانمارك بأن بلادها مهددة بشكل كبير جدا بانتشار الوباء، مما دفعها إلى توقيع العقد وشراء كميات هائلة وتخزينها.

وما لم يقله التقرير ولكنه يفهم سريعا منه أن دول العالم الثالث والدول المتخلفة وقعت عقودا مع الشركة لاقتناء كميات من ذلك الدواء، لأن الحكومات هناك لا تخضع للمراقبة ولأن الفساد منتشر بشكل كبير، ولا حاجة لممارسة أي ضغوط كما حصل مع بريطانيا والدانمارك. فهذه الدول تشتري الدواء كما تشتري السلاح، ولا يهمها عدم استعماله.

لكن ما المعلومة الذكية في الموضوع؟

المعلومة الذكية هي أن رئيس مجلس إدارة شركة جلعاد التي “طورت” الدواء هو… دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأمريكي الشهير الذي دمر العراق.

هذا بين لنا أن العالم مقسم إلى أقلية تتلاعب بالإنسان، وأغلبية كبرى تتشكل من مواطني البلدان الفقيرة ومواطني البلدان الغنية على السواء، ومع بعض الفوارق بطبيعة الحال راجعة إلى سيادة القانون وبصيص الديمقراطية ونزاهة القضاء، لأن العالم كله سوق بالنسبة لهؤلاء. ولن يكون مستحيلا أن تجد أن هذه الأقلية تتشكل بشكل رئيسي من عرق معين يفسد في الأرض منذ آلاف السنين.

وعندما نرى ما يحصل في هذا العالم المريض الذي يغلق الناس فيه بيوتهم على أنفسهم في الحجر الصحي، ونرى خلفنا ما وقع في المائة عام الماضية على الأقل، ندرك بالفعل بأن القضية ليست قضية تخلف جنيني في المتخلفين ولا تقدم جنيني في المتقدمين، ولكنها في غياب الحرية والديمقراطية، إذ بالحرية نبتكر ونبدع ونملك زمام أمورنا، وبالديمقراطية نختار المسؤولين الذين يناسبوننا، ونرفض المسؤولين الذين نناسبهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *