وجهة نظر

الداخلية المغربية: التنزيل العملي لورش المصالحة بين السلطة والمواطن

إن الأزمات الاجتماعية والسياسية غالبا ما تُنتج لنا مواقف راديكالية بالمفهوم الإيجابي أو السلبي للمصطلح وبالتالي تساهم في إحداث طفرات في البنية السلوكية للمواطن اتجاه مجموعة من الأحداث والمواقفوالمؤسسات وتقطع مع أنماط الإنتاج والعلاقات الأفقية والعمودية السائدة في المجتمع والتي قد تمتد لعقود من الزمن.

وإذا كانت جائحة كورونا قد أرخت بضلالها وبثقلها على الوضع الاقتصادي المغربي وأنتجت، بلا شك، هزات في اللاشعور الجماعي للمواطن المغربي، بما يمكن أن ينعكس على نمط التعاملات المستقبلية، فإن هذه الأزمة كان لها من الحسنات ما لا يمكن أن نمر عليه مرور اليتيم بقوم، ولعل أهمها العودة القوية للثقة بين السلطة والمواطن المغربي وهي الثقة التي عرفت تراجعا حادا ساهمت فيه مجموعة من الإكراهات الموضوعية التي ميزت الانتقال السريع للمغرب لتبني الخيار الديمقراطي كأحد الثوابت التي بُني عليها التعاقد الاجتماعي والسياسي والذي تم تكريسه بمقتضى الوثيقة الدستورية لسنة 2011م.

هذه المرحلة الانتقالية تحملت عبئها مؤسسة السلطة والتي كانت ضحية شعور سلبي كان نتاج لتراكمات تاريخية، وهو الشعور الذي لم يواكب، للأسف، مشروع تحديث الإدارة الترابية وإعادة النظر في الجانب البنيوي والوظيفي لرجال السلطة وهو ما جعل هذا الجهاز يتحمل، مكرها، إسقاطات التراكم التاريخي السلبي للمجتمع بالرغم من تغير العقلية التي تقود الملحقات الإدارية، على الأقل على المستوى الترابي.

في هذا السياق، استطاع جيش رجال الإدارة الترابية، وفي زمن وجيز، القطع مع تلك الصورة النمطية لدى المواطن المغربي اتجاه مؤسسة السلطة، من خلال نهج سياسة القرب والانفتاح على المجتمع المدني والأمني والسياسي والقدرة على تأطير وتوجيه المواطنين وقوة الخطاب الذي أنتجته هذه الشريحة من المسؤولين بالنظر إلى قدرتهم على التأطير وإتقان فن التواصل والتنسيق بين مختلف المصالح الأمنية والخارجية وهو ما يعتبر شيئا بديهيا إذا ما علمنا أن مسطرة اختيار أطر المعهد الملكي للإدارة الترابية تخضع لمعايير صارمة ودقيقة لا تسمح بولوج هذه المؤسسة “العتيدة” إلا لمن راكم مستوى علمي متميز وحس أمني يقظ وتاريخ سليم من الممارسات السلوكية والتي يتم صقلها على مستوى التكوين العسكري والإداري بالمعهدالملكي للإدارة الترابية ليفرز لنا منتوجا راقيا من رجالات الدولة يمكن الاعتماد عليهم في مثل هاته الأزمات التي تمر منها البلاد.

إن الحديث عن الأداء المتميز لرجالات الإدارة الترابية يفرض علينا التنويه بالتوجيهات الإدارية والميدانية لوزير الداخلية عبدالوافي لفتيت والذي نجح في خلق ذلك التوازن المحمود بين ضرورة مواجهة السلوك  السلبي لبعض الفئات من المواطنين المغاربة لفرض صارم لإجراءات الحجر المنزلي، وأيضا توجيه رجال السلطة إلى استثمار إمكانياتهم في التواصل والتأطير لتحسيس المواطنين بحساسية المرحلة وتوعيتهم بأن هذه الإجراءات الاستثنائية إنما الغرض منها مصلحة الوطن والمواطنين بالدرجة الأولى وبأن هذه الاجراءات الاحترازية جنبت المغرب كارثة إنسانية تعيش دول الجوار على ارتداداتها السلبية إلى يومنا هذا.

في هذا السياق، ركزتالداخلية المغربية على الرفع من معنويات العنصر البشري الذي تتوفر عليه،مع تحريك حزمة من التحفيزات المعنوية والإدارية، وهو ما دفع جميع أفراد السلطة المحلية إلى التحرك كخلية نحل وبتنسيق تام وخطوات مدروسة أدت إلى تحقيق النتائج المرجوة في وقت قياسي. والأكيد أن السيد عبد الوافي لفتيتاطلع على ما كتبه المنظر الاستراتيجي أردان دوبيك خصوصا في كتابه المرجعة “دراسات عن القتال” حين ركز على الجوانب المعنوية في مواجهة “العدو” (الوباء في هذه الحالة)، لكن ما نلاحظه أن مقاربته للأزمة من خلال استحضار الجانب المعنوي في تحريك الأدوات والوسائل بالمفهوم الاستراتيجي قد لعبت دورا حاسما في إعادة بلورة العلاقة بين السلطة والمواطن وساهمت في تقوية أسس وركائز الأمن القومي المغربي على المدى البعيد.

ولعل الجملة الشهيرة التي أصبحت “ماركة مسجلة” للسيد وزير الداخلية والتي قال فيها “حنا راحنا فسفينة وحدة، إما أن ننجو جميعا أو نغرق جميعا” أعتبرها شخصيا مفتاح عقد المصالحة بين السلطة والمواطن والطي النهائي لصفحة من التاريخ الحديث لبلادنا والتي عانا وتحمل فيها رجال السلطة عبئ التراجع الإرادي للدولة أمام المطالب الاجتماعية، في أفق خلق قاعدة مادية واعية قادرة على تجسيد مبادئ الاختيار الديمقراطي المستوحاة من التوجيه الملكي السامي والذي ارتقى به إلى مستوى ثوابت الأمة المغربية.

لقد عاين المواطنون المغاربة المعاناة التي تكبدها هذا الجهاز والالتزام الحرفي بتعليمات السيد وزير الداخلية المغربي (له عبارة شهيرة: Partager la souffrance avec la population) وهو ما أنتج لنا ثورة جديدة في تبلور العلاقة بين الإدارة والمواطن والتأسيس لعلاقة جديدة يجب استثمارها خدمة للأمن الاجتماعي المغربي ومنطلقا لانخراط المواطن المغربي في التنزيل الإيجابي للمشاريع التي يمكن أن تعود عليه وعلى محيطه بالنفع ويمكن أن ترفع من المؤشرات التنموية في بلادنا.

إجمالا يمكن القول أن طريقة تدبير الازمة من طرف وزارة الداخلية المغربية، والتي تمتح من التوجيهات الملكية السامية،ساهمت بشكل كبير في التأقلم السريع مع جائحة كوفيد19 في الوقت الذي تقطع فيه جميع المؤشرات بأن المغرب أصبح قادرا على محاصرة هذا الوباء والقضاء عليه في الأفق الزمني المنظور.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *