وجهة نظر

جذور عنصرية البيض ضد باقي الأجناس: هل عاش العالم عصر حداثة؟

أعادت الصورة البشعة لقتل شرطي أمريكي أبيض لرجل أسود بتلك الطريقة غير الآدمية، إثارة النقاش حول مفهوم الحداثة وما يرتبط به من إشكالات حقيقية. وما يهمنا هنا هو مناقشة السؤال: ما المعيار الذي نحكم به على كون عصر ما أنه عصر حداثة وتنوير أم عصر تخلف وظلام؟

إن المنهج العلمي الموضوعي يقتضي أن ننطلق من معيار عالمي في تقويم التغيير الداخلي في مجتمع ما، أي أن نضع كل تغيير في أي مجتمع ضمن إطار العالم كله. وهذه فكرة بحاجة إلى أن تناقش في كل جوانبها، لكنها تعد الخطوة الأولى في مواجهة المعيار الغربي الذي يعتمد إطاره الخاص معيارا للتقدم والتأخر(1). فهل المقياس جزئي خاص بالبلد المعني، أم عالمي وإنساني عام؟ وهذا يفتحنا على تساؤل آخر: هل عصر النهضة الأوروبية هو عصر تنوير وحداثة؟ وإذا كان كذلك ما هو المعيار الذي يسمح بوصفه كذلك؟ وإذا لم يكن تنويرا وحداثة، فماذا يكون؟

إن العصر المراد هنا هو العصر الغربي (الأوروبي) الممتد من القرن الخامس عشر إلى العصر الحديث حسب البعض، وإلى حدود القرن التسع عشر ميلادي ، حسب البعض الآخر، هذا الأخير الذي يعتبر ما بعد القرن التاسع عشر ميلادي عصر “ما بعد الحداثة” Post Modernité هذا العصر الذي يسمى أيضا عصر الحرية والمساواة، عصر العقل، وفي بعض الأدبيات، عصر الانتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية. لكن السؤال: بماذا اختلف هذا العصر عن العصور التي قورن بها حتى استحق هذه التسمية؟ هل هو حقيق بها فعلا؟

إن المقارنة تجري بالعصور الوسطى في أوروبا، حيث ساد الإقطاع (القِناَنة) باعتباره النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وسادت الكنيسة باعتبارها المؤسسة الدينية والروحية. وقد حدثت فعلا قفزة مثلت ما يسمى “الحداثة”، تجلت في حديث الغرب الأوربي عن الخلاص من عهد العبودية، والانتقال إلى عصر المساواة، ومن عهد محاكم التفتيش والحجر على العقول وقمع العلماء إلى عهد الحرية الفكرية، ومن الحكم الملكي المطلق إلى الحكم الديمقراطي.

ويحدد الغرب لهذه القفزة أحداثا فاصلة بين العصر الوسيط وعصر الحداثة، شكلت أساس الحداثة ومنها: الثورة الفرنسية 1789م، والثورات الألمانية والإيطالية والثورة الأمريكية باعتبار أمريكا امتداد للغرب الأوروبي. وقد جعلت هذه الثورات أوروبا معيارا للحكم على أن العالم يعيش عصور تنوير وحداثة، وليس العالم كله هو المعيار.

وبالتأكيد فقد استطاعت أوروبا القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر، أن تحقق ما تسميه عصر الحداثة في ربوعها، وأن تفرض سيطرتها العسكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية على العالم منذ أواخر القرن الخامس عشر وانتهاء بالحرب العالمية الثانية التي جعلت العالم بضعة دول أوروبية، مع العلم أن الحربين الأولى والثانية هما من نتائج الحداثة !!

ونتيجةُ هذه السيطرةِ هي سيادة المقولات الفكرية الغربية (الأوروبية) في الفلسفة(2) وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والقانون وغيرها، مما جعل الحديث عن ذلك المسمى “عصر الحداثة” مسألة مفروغ منها، وهذا ما يجعل السؤال؛ هل هو عصر تنوير وحداثة؟ خروجا عن المألوف، هذا إذا لم يعتبر “كفرا” ووقاحة وطعنا في المقدس (والغريب أن الحداثة تدعي رفضها للمقدسات). لكن بالرغم من “الإرهاب” الفكري الذي يفرضه الغرب يبقى هذا السؤال واردا. ونقطة الانطلاق للحسم في هذا السؤال تتركز في الإجابة عن الأسئلة:

ما هو المعيار في الحكم على عصر من العصور بأنه يمثل عصر حداثة وتنوير أم عصر تخلف وظلام؟ هل يقاس بما تحقق من إنجازات داخل مجتمع محدد ومعين هو الغرب (الأوربي) في هذه الحالة؟ أم يقاس بما تحقق على مستوى عالمي؟

إذا كان المقصود بعصر الحداثة عصر حداثة العالم كله، فإن الموضوعية تقتضي أن يكون المعيار هو العالم كله. وإذا كان المقصود حداثة بلد بعينه، فالمعيار جزئي، ومن تم يمكن الطعن به إن جاءت تلك الحداثة وَبالاً على شعوب العالم الأخرى.

لا شك أن الفكر الغربي يستخدم المقياس الجزئي، المتعلق بأوروبا نفسها، لهذا نرى أن النظريات الغربية التي أفرزتها مرحلة الأربعة قرون (منذ القرن 16) تختلف فيما بينها في عدة مسائل وقضايا، لكنها تتفق في أن أوروبا هي المعيار في الحكم، ومن ثم تتفق على تسمية ذلك العصر بالحداثة، وهو ما حدا بالمفكر إدوارد سعيد الحديث عما سماه بالمركزية الغربية في رؤيته النقدية لظاهرة الاستشراق.

إن هذا التوجه الذي يعتبر نهضة أوربا حداثة عالمية مطعون فيه من جوانب عدة منها:

1ـ أنه معيار غير علمي، لأنه ببساطة لا يجوز أن تكون الأقلية، التي هي أوروبا آنذاك، معيارا للحكم وما عدا الأقلية يعتبر هامشا.

2ـ أنه معيار غير أخلاقي ولا إنساني، لأنه لا يقيم معيارا عالميا لما هو أخلاقي وإنساني، وأنه يفتقد إلى الشمولية والعالمية.

3ـ أن الغالبية من شعوب العالم لا تقبل أن تقاس بمقياس الأقلية، فذلك يجافي الموضوعية في الموقف العلمي.

4ـ أنه معيار جعل الغرب مركزا ونموذجا يجب المرور به للدخول للحداثة.

إن المطلوب هنا منهجية موضوعية تنطلق من الإطار العالمي، ومن تم تحكم على ما هو حداثة أو غيرها، أو ما هو تقدم أو تأخر. وبهذا لا يصبح ما حدث في لندن أو باريس، هو معيار الحداثة العالمية. ومن ثم يتوقف حكمنا على عصر ما أنه حداثة على المعيار الذي نوظفه، فإذا كنا نعتبر بضعة دول غربية هي المعيار فإننا، ولا شك ، نرى أن ما حدث منذ أواخر القرن 15م، إلى القرن 19 حداثة – لكن إذا كنا نرى العالم كله مقياس، فإننا سنرى ذلك العصر – عصر الحداثة عصر آخر، ربما عصر الاستبداد والظلمات، فكيف ذلك؟

لعل التغير الأساس الذي حدث في الوضع الأوروبي، أواخر القرن الخامس عشر ميلادي ـ والذي يعد من بين أسس الحداثة ـ اكتشاف الطريق إلى الأمريكيتين، واكتشاف رأس الرجاء الصالح، أي ما اصطلح عليه بالاكتشافات الجغرافية.

وقد أدى ذلك إلى تهافت أوروبا للسيطرة على مناطق عدة من العالم، أو لنقل من الناحية الفلسفية، فك العزلة عن الإنسان الأوروبي وتوسع فضاء الفعل والتفكير، بعد أن قبع داخل أسوار الكنيسة وأسوار أوروبا الفقيرة. هكذا اندفعت أوروبا للسيطرة على العالم بكل ما يعنيه ذلك من سلب للثروات وحشد للقوى العسكرية. وهذا ما تطلب إعادة ترتيب البيت الأوروبي من الداخل ليستجيب لمقتضيات السيطرة.

وأول خطوة أساس في هذا الترتيب هي إزالة العراقيل التي أقامها الإقطاع، والتي تحول دون تنقل الفلاحين وسفرهم وتجنيدهم، وهذا ما تطلب التخلص من الإقطاع لأن التوسع يتطلب مواطنين أحرار.

ثم إن تراكم الثروات، حرك عجلة الإنتاج الداخلي من صناعات ( الثورة الصناعية وهي من أسس الحداثة) وبذلك شكلت الثروات التي نُهِبت من الخارج، رأسمال داخلي حرك عجلة الإنتاج وخلق الحاجة إلى التطوير العلمي.(3)

الانعطاف الذي حدث إذن في أوروبا، والذي اعتبر قطيعة جذرية مع العصور السابقة، إنما جاء ليعيد ترتيب البيت الأوروبي ليحقق أعلى درجات التعبئة المادية والسياسية والفكرية التي ستكون في خدمة اكتساح العالم. وهذا ما رافق بالفعل ما يسمى عصر الحداثة؛ بل كان قاعدته. ذلك ما يمثله الاندفاع لاستبعاد إفريقيا (أكثر من مائة مليون ضحية ما بين سنتي 1600م و 1900م)، يوازي ذلك اندفاع آخر لإبادة ملايين الهنود الحمر، هذا إلى جانب آلاف الضحايا التي تكبدتها بلدان آسيا.

إننا برسمنا خريطةً للعالم في تلك المرحلة المسماة “الحداثة”، فسنجد العالم دخل فعليا في عصر الظلمات والإجرام، وليس التنوير كما يقول الغرب. فإذا أقام الغرب دليله على انتقال الفلاح الأوروبي من العبودية إلى المواطنة، فأين يذهب بدليله ذاك أمام انتقال عشرات الملايين من الأفارقة والهنود الحمر من الوجود إلى العدم أو من الحياة إلى الموت بالإبادة الجماعية، ومن الحرية والحياة الجماعية إلى العبودية الجماعية؟ ثم ماذا يقول الغرب في العنصرية الآرية(4) – ابنة الحداثة – التي اعتبرت الآخرين دون البشر لكونهم مختلفين؟ ثم ماذا يقول الغرب في الحربين العالميتين الأولى و الثانية اللتان أودتا بحياة ملايين الناس؟ فهل يسمى هذا عصر حداثة؟ أين يقع المعيار، هل في البرلمان الإنجليزي والجمعية الفرنسية؟ أم في مذابح الهنود الحمر والأفارقة؟ هل في دستور الثورة الفرنسية أم في معاهدات السيطرة والاستعمار؟ ثم هل يسمى حداثة، رفع محاكم التفتيش عن أوروبا لتعممها على شعوب العالم، وإعطاء الشعوب الأوروبية الحرية ومصادرة حرية الشعوب الأخرى؟

لقد تركزت التغييرات الغربية للتاريخ الحضاري الغربي على رؤية جزئية ضمن حدود أوروبا، وهذا ما يفسر لماذا نُظِر إلى عصر الحداثة على أنه استجابة لتطور داخلي تلقائي وضروري، ولم توضع في البداية اعتبارات السيطرة على الخارج، وما تتطلبه من إعادة ترتيب البيت الغربي. كما يفسر أيضا لماذا اعتبرت النظريات والفلسفات والتطورات العلمية استجابة لحاجات التطور الداخلي الغربي. بل هناك من اعتبر التطور الداخلي الأوربي هو الذي أفرز السيطرة الخارجية التي تزول بتغير آخر داخلي في أوروبا(5). ومن تم تغافل الجميع عن رؤية العملية ضمن إطارها العالمي، أي بارتباطها الوثيق بتلك المرحلة التي فتحت للغرب أفاق الخروج للسيطرة على العالم.

إن الفكر الغربي جعل مساره الداخلي هو الحاسم في تطوره وترك للعالم دورا ثانويا، ومن تم يجد هذا الفكر ومن تأثر به صعوبة في تقبل المنهج الذي يرجع التغيرات الداخلية الغربية منذ أواخر القرن 15م إلى الإمكانات التي أتيحت للسيطرة على العالم، وليس تغيرا مبنيا على رؤية إنسانية عالمية تستهدف نشر قيم الحرية والمساواة والحقوق على الصعيد العالمي بغض النظر عن الجنس واللون والعرق.

إن عدم الإمساك بمعيار شمولي عالمي، ساعد على صياغة مقولات بررت الجرائم المرتكبة بحق الأفارقة والهنود، وسوغت احتلال بلدان العالم. فقد اعتبر ذلك ضريبة لابد من دفعها من قبل الإنسانية للدخول في عصر الحداثة. وهو المنهج نفسه الذي يوظف اليوم تحت مسمى الإرهاب انطلاقا من اعتبار الغرب بقيادة أمريكا هو مهد الحرية والنور، والعالم الاسلامي هو مهد الاستبداد والظلام.

نختم بما أشار إليه الفيلسوف الفرنسي “آلان دي ليبيرا” بأن الكثير من المفاهيم الأساس في الثقافة الغربية، ومن القيم الإيجابية التي يتغنى بها الغرب اليوم ويعتبرها مكاسب جوهرية، هي قيم مستعارة من التراث الحضاري الإسلامي في القرنيين الثاني عشر والثالث عشر ميلادي (6).

هوامش:
* كاتب في قضايا الفكر واللغة/ المغرب
أشير إلى أنني اعتمدت في معيار تقويم الحداثة على ما أورده المفكر منير شفيق في كتابه ” الإسلام في معركة الحضارة.” دار البراق للنشر والتوزيع – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1991م.
نمثل هنا بالفيلسوفين كانط و ديكارت، بصفتهما أنموذجين للإتجاه العقلاني.
للتعمق يرجع لكتاب “الإسلام في معركة الحضارة” المشار إليه.
نسبة إلى الجنس الآري الذي شكل وقودا إيديولوجيا لهتر استطاع به التعبئة لخوض الحرب.
بعض ملامح ذلك تجلت اليوم في وباء كورونا، حيث أدى تدهور القطاع الصحي وعجزه عن استيعاب المرضى في بعض الدول الأوربية( إطاليا فرنسا) (كعامل تغير داخلي)، أدى إلى تراجع ملموس في دورهما داخل ليبيا لصالح الدور التركي، وتغيير موازين الصراع لصالح حكومة الوفاق الشرعية.
انظر كتاب “فلسفة العصور الوسطى” للكاتب عبد الرحمان بدوي، وكتاب “تاريخ الفلسفة الأروبية في العصر الوسيط” للكاتب يوسف كرم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *