وجهة نظر

اقتصاد المقدس

تخالجني في كثير من الأحيان أفكار وموضوعات وخواطر تثير لدي الكثير من القلق والفضول البين-ذاتي، وسرعان ما أدونها حتى لا تنمحي أو تنسى أو تنزلق في اللاشعور.

وقد اخترت من بينها في هذه اللحظة والهنيهة موضوعا يخالجني باستمرار وهو اقتصاد المقدس، فما اقتصاد المقدس؟ وما العلاقة بين الاقتصاد والمقدس؟ وكيف يمكن أن يكون المقدس اقتصادا؟

أسئلة وأخرى تتقاطر علي باستمرار سأحاول الإجابة عنها من خلال هذا التأمل البين- ذاتي.

أولا: أجرأة مفهوم اقتصاد المقدس:

إن الدلالات والمعاني التي يمكن إضفاءها على مفهوم اقتصاد المقدس، تجد مدلولاتها في المقدس ذاته وهو الدين الإسلامي في مجتمعنا، ونحن هنا أمام مفهومين أولها الاقتصاد والثاني المقدس، فالأول ينتمي إلى حقل الاقتصاد بما يختزنه من تنظير وممارسات تقوم على تحقيق الربح المادي والمنافسة..؛ أما الثاني فينتمي إلى حقل الدين باعتباره أمر مقدس لدى جميع المسلمين ويشكل المعنى الحقيقي في الحياة لديهم بل وفي وجودهم. فلماذا الجمع بين هذين المفهومين بالذات من خلال هذه المساهمة؟

قد يبدوا للوهلة الأولى أنهما مفهومين بعيدين كل البعد عن بعضهما، إلا أن المناسبة شرط إذ إننا منغمسين في كنف هذا الشهر الفضيل شهر رمضان المبارك لعام 1441 ه، الموافق لــ 2020 م، بروحانياته ومقدساته ومنافساته الاقتصادية من نوع آخر. وعليه فإن المعنى والجوهر الذي يتم استخراجه من عنوان ومنطوق اقتصاد المقدس هو كونه “عمل تديني وتعبدي يجتهد من خلاله الإنسان المسلم لتحقيق أكبر قدر من الربح الروحاني والمعنوي في اقتصاد المقدس وعملته في ذلك جمع أكبر قدر من الحسنات وطرح السيئات”.

وعليه فالاقتصاد الذي أتحدث عنه هنا هو اقتصاد روحاني ومعنوي يشغله عمال و”شغيلة” واسعة من المسلمين عبر أرجاء العالم، ويجتهدون ويتنافسون في تحقيق الربح والتدرج في المراتب والدرجات من الإسلام إلى الإيمان إلى الإحسان، ونورد في هذا الإطار الحديث المشهور الذي يحدد هذه المراتب :

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه ، وقال : ” يا محمد أخبرني عن الإسلام ” ، فقال له : ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ) ، قال : ” صدقت ” ، فعجبنا له يسأله ويصدقه ، قال : ” أخبرني عن الإيمان ” قال : ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ) ، قال : ” صدقت ” ، قال : ” فأخبرني عن الإحسان ” ، قال : ( أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) ، قال : ” فأخبرني عن الساعة ” ، قال : ( ما المسؤول بأعلم من السائل ) ، قال : ” فأخبرني عن أماراتها ” ، قال : ( أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء ، يتطاولون في البنيان ) ثم انطلق فلبث مليا ، ثم قال : ( يا عمر ، أتدري من السائل ؟ ) ، قلت : “الله ورسوله أعلم ” ، قال : ( فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم. رواه مسلم .

ثانيا: فلسفة اقتصاد المقدس:

تنبع فلسفة اقتصاد المقدس من الدين الإسلامي الذي وضع النظام الاقتصادي الروحاني والتديني، وحدد العملة والأرباح كعملة الحسنات والربح الدنيوي والآخر في جنة الخلود.

فبالرجوع إلى مصادر الدين الإسلامي وهما القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، نجد أن هناك مجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تحفز الإنسان المسلم ببعد اقتصادي ربحي في التدين ومن أمثلة ذلك ما يلي :

قوله تعالى : ” لمثل هذا فليعمل العاملون”، (سورة الصافات، الآية 61).

قوله تعالى: “ختامه مسك،وفي ذلك فليتنافس المتنافسون”: ( سورة المطففين، الآية 25).

فإذا كانت هاته الآيات البينات ذات حمولة روحانية فإن القرآن الكريم يتضمن كذلك آيات تنظم وتؤطر الاقتصاد المادي الدنيوي والذي تكون من ورائه و مقاصه أبعاد روحية معنوية وتعبدية ومن أمثلتها:

قوله تعالى: “وآتوهم من مال الله الذي آتاكم”، (النور: 33).

قوله تعالى: ” وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ، (القصص:77).

قوله تعالى: ” يا أَيـُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ”، (البقرة: 254).

قوله تعالى: ” وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ” ، (البقرة: 275).
يتبين من خلال استقراء هذه الآيات، أن الإسلام يصبغ اقتصاده بصبغة واقعية تتلاءم مع طبيعة الإنسان، فلا يأمره بترك الماديات مطلقا، ولا بترك الروح مطلقا، على الرغم من أن ما هو مادي تكون غايته تحقيق ما هو روحي، لأن الضامن لاستمرار السلطة الزمنية أو المادية هو السلطة الروحية. كما أن ديننا المقدس يؤطر اقتصاده بالأخلاق، وبتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، فيما لو تعارضتا، وعليه فإن جوهر الاقتصاد ومحوره في الإسلام هو الإنسان سواء فيما هو مادي أو روحي.

أما على مستوى الأحاديث النبوية الشريفة فأنطلق من حديث مشهور ينطلق من مفهوم اقتصادي، هو مفهوم الإفلاس الذي يدل على الفناء والانهيار الاقتصادي، فما مدلوله من خلال اقتصاد المقدس؟

جاء في الحديث :
عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال ” أتدرون من المفلس؟ قالوا: يا رسول الله المفلس فينا من لا درهم ولا متاع له؛ فقال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام، وزكاة؛ ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا؛ وضرب هذا؛ فيعطى هذا من حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار”. (رواه مسلم)

إذن في ثنايا هذه الحديث يمكن استخراج أن الإفلاس الحقيقي يتحقق في العالم الآخر، الذي تكون عملته الاقتصادية الحسنات من جهة وطرح السيئات من جهة أخرى في عملية أخذ ورد بين الظالمين والمظلومين، بين من جمع جبال من حسنات اقتصاد المقدس من صلاة وصيام وزكاة..، لكنه بالمقابل مارس أعمال وسلوكات مضادة لاقتصاد المقدس، فتهوي به إلى درجة الصفر من الحسنات، وأكثر من ذلك ناقص الصفر حينما تطرح عليه سيئات المدينين والديون المتبقية، وعليه فهذا هو الإفلاس الحقيقي في اقتصاد المقدس.

ثالثا: الربح اليومي في اقتصاد المقدس:

يأتي هذا المحور الأخير في هذه المساهمة للحديث عن اليومي في اقتصاد المقدس، والذي أقصد به الطقوس اليومية لجمع أقدر ربح من عملة اقتصاد المقدس. فإذا كان التاجر أو العامل في نهاية كل يوم يحسب الأرباح التي حققها والخسائر التي تكبدها، فالسؤال المطروح هو هل يقوم الإنسان المسلم بنفس هذه العملية في نهاية كل يوم باحتساب حسناته أو على الأقل تقديرها، ثم رصد سيئاته والعمل على محوها؟

لا شك أن الإنسان المسلم يمارس مجموعة من الطقوس والعبادات بشكل يومي، وقد يؤديها بوعي أو بدون وعي، بتأمل وتدبر أو بشكل طقوسي ثقافي فقط، ونورد في ما يلي بعض الطقوس التي يمكن أن يقوم بها المسلم يوميا:

أداء الصلوات الخمس والنوافل.

الأذكار والأدعية.

زيارة المرضى ومصاحبة الموتى.

الزكاة والصدقة.

العمل والمعاملات.

هذه طقوس من بين أخرى تمارس بشكل يومي، فهل الجميع يمارس هذه الطقوس، فهناك من يمارس بعضها وهناك من يمارس أغلبها أو كلها وهناك من لا يمارسها إطلاقا، وبهذا تختلف المراتب والدرجات في طقوس اقتصاد المقدس.

ولعل ما يثير الانتباه هو لغة الأرقام في اقتصاد المقدس في احتساب عملته المتمثلة في الحسنات، فعدد الحسنات ودرجاتها في الصلاة مع الجماعة بالنسبة للرجال ليس كالصلاة فرادى، وعدد الحسنات في تلاوة آيات القرآن مرتبط بأحرفها، وفي إماطة الآذى عن الطريق حسنات، بل وحتى أن المبتسم في وجه الآخرين يظفر بأرباح حسناتية من العابس.

وعكس ذلك يمكن للإنسان المسلم الذي ارتكب السيئات وأقر ذلك بوعيه وفي دواخله أن يحمل على محوها واستبدالها بالحسنات مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم ” اتق الله حيث ما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن” رواه الترمذي.

وعليه فالسؤال هل يحتسب كل واحد منا حسناته ويعمل على طرح ومحو سيئاته ويجتهد في ذلك بشكل يومي؟ أتركه وأمرره للجميع إلى دواخلهم من أجل حوار بين ذاتي لتقييم وضعيتهم في اقتصاد المقدس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *